"آسفي مسقط الرأس، مراكش مسقط القلب، والصويرة مدينة الأصول، لكن زاكورة هي أخلص المدن الصديقة وأقربها إليَّ. تلك مدن مغربية، والاقتباس من كتاب ياسين عدنان "مدن معلَّقة: تدوينات العابر" الصادر حديثاً في طبعة مصرية ضمن سلسلة "الإبداع العربي" التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب، بغلافٍ صمَّمه الفنان المصري أحمد اللبَّاد.
وما دوَّنه الشاعر والروائي والإعلامي المغربي ياسين عدنان وشكّل متن هذا الكتاب المندرج في "أدب الرحلات"، يمكن اعتباره أيضًا سيرة ذاتية، بما يحتويه من ملامح من حياة صاحبه المولع بالسفر والاكتشاف. وقد يستدعي عنوان الكتاب إلى الذاكرة عنوان ديوانه الشعري "دفتر العابر"، وحتى رؤيته للعالم على نحو ما.
كثيرة هي المدن التي زارها عدنان شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، وبعضها لم يتمكن من سبر أغوارها بما أنها كانت مجرد "ترانزيت" بين مدينتين. وتحظى مدن مغربية عدة بالكثير من تدوينات عدنان بما فيها مراكش التي يعتز بانتمائه إليها، حتى إنه يسميها "مسقط القلب"، وبالتالي فإن علاقته بها ليست علاقة عابر.
أما الفترة الزمنية التي غطتها تلك التدوينات فتمتد من العام 2001 إلى العام 2021 الذي كان بالنسبة إلى العالم "عام الجائحة"، هو والعام الذي سبقه بسبب انتشار وباء كورونا أو "كوفيد 19"، وخلالهما تأثرت حركة السفر سلبيًا في ظل إجراءات احترازية شديدة الوطأة في مختلف أنحاء المعمورة. في تدوينة مؤرخة ب 30 أيلول (سبتمبر) 2021 يقول عدنان عن حال مدينة إقامته مراكش في ظل استفحال الوباء: "لا تكون لأهلها ما لم يتقاسموها مع الآخرين. هذا ديدن المدينة منذ أيام المرابطين واأسلاف الذين تمنوها عامرة أبدًا، واليوم ها هي خاوية على عروشها" (ص 274).
ياسين عدنان (يسار) يحتفل مع أحمد الشهاوي بصدور طبعة مصرية من كتابه
شجون مغربية
وفي تدوينة أخرى تعود إلى أحد أيام شهر حزيران (يونيو) 2017، يتذكر عدنان زياراته أيام الطفولة لأحد الدواودير في سوق سيدي محمد التيجي في آسفي، ويقول: "كلما دخلتُ آسفي وجدتُني أطوفها كاملة، كأنما لأطمئن على أن المدينة ما زالت على حالها، أو ربما لأحزن أكثر، لأحرض الحزن داخلي، وأنا أرى المدينة تنهار". وفي تدوينة أخرى يقول: "بالنسبة إلى مراكشي مثلي، سبتة ليست أية مدينة، فإثنان من أقطاب مراكش وأشهر رجالاتها السبعة كانا من هنا: القطب الصوفي أبو العباس السبتي، وصاحب "كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى" الفقيه المالكي القاضي عياض الذي تحْمِل جامعة مراكش، حيث درستُ اسمه المهيب".
وفي مطار برشلونة، وتحديدا يوم 2 أيلول/ سبتمبر 2015 كتب: "مَن قال إن الأُلْفة لا تتسرب إلى وجدان العابر؟ حتى محطات العبور يمكنها أن تمنحك إحساسًا خاصًّا بالألفة. هناك مطارات صارت بالنسبة اليّ مطارات أليفة. أحفظ زواياها ومطاعمها وأتلمَّس روح البلد من خلالها، رغم ما يشاع مِن أن المطارات تتشابه" (ص 150). وفي تدوينة أخرى يكتب عن بروكسل، حيث يعيش شقيقه الشاعر طه عدنان: "مدينة تعرف كيف تُسرِب إحساس الألفة للزائر والمقيم على حد سواء، رغم سمائها الغائمة في أغلب الأوقات"، قبل أن يتأمل حال "اللاجئين الفارين من الموت الذي أخذ بلادهم رهينة".
بهجة السفر
تتصدر الكتاب (351 صفحة) مقدمة بدأها صاحب رواية "هوت موراكو" بالقول: "للسفر بهجةٌ لا تكتمل إلا بمشاركته مع الآخرين. في الطفولة، كنتُ كلَّما سافرتُ إلى مكان استعجلتُ العودة لأحكي سفري لشقيقي طه. كنتُ موزَّعًا بين متعة السفر ولذة حكيه. وكلما طال السفر، كنت أخشى على محكياتي من أن تتبدَّد، فأشرع في تدوينها ضمن رسائل مطوَّلة. تلك الرسائل كانت تدريبات أولى على تدوين أسفاري. هكذا صرتُ أترك الأصدقاء مستمتعين بالسهرة في هذه العاصمة أو تلك، وأدخل لأدون بعض أحداث اليوم. كنتُ حريصًا على عدم إرجاء الكتابة".
ويضيف ياسين عدنان المولود في العام 1970: "أحب الالتقاط الطري لروح المكان، والتدوين المباشر للحدث قبل أن يخمد جمرُ الدهشة بين جوانحي. أحيانًا كنت أكتب في المطارات، وفي محطات العبور، فأن تجد نفسك مركونًا لساعات على سبيل الترانزيت في مطار فرانكفورت، أنت العائد من استكهولم باتجاه مراكش، لم يعد مصدر قلق عظيم. إذ بالكتابة حوَّلتً ورطة الترانزيت إلى فرصة، ومحنة الانتظار إلى منحة" (ص 5).
بيروت 39
وفي المقدمة نفسها يؤكد عدنان أن عزلة كورونا كانت السبب في التفرغ لجمع تلك التدوينات: "هي فرصتي لأجترَّ هذه الأسفار، أستعيد الشخوص والأمكنة برهافة وحنين".
هنا يؤكد أيضا ما بين "تدوينات العابر" و"دفتر العابر": "عدتُ إلى كنانيش قديمة سابقة على زمن التدوين الإلكتروني فوجدت بها عددًا من اليوميات التي لم أوفق في تقطيرها شعرًا، فباشرت في تجميعها وتنسيقها ؛ نكاية بحظر السفر والتجوال". ويضيف أنه بالرغم من اعتبار "دفتر العابر" بمثابة كتابٌ شعري وهذه التدوينات سرد نثري، "فإنني أعدها امتدادًا له، حتى لتكاد تشكل جزأه الثاني، فمهما تعددت الأجناس الأدبية وتمايزت، فالسفر واحد، وكذلك بهجته".
يبدأ الكتاب بتدوينة من غرناطة بتاريخ 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 2001، على خلفية زيارة عدنان للمدينة الأندلسية؛ للمشاركة في ندوة: "لبيك غرناطة يا رمَّانة المدائن".
وهناك شرع من فوره – كما يقول – إلى ارتجال تاريخ بديل للمكان؛ "تاريخ مرن مضياف يفسح لي أنا الطارئ الغريب مكانًا داخله".
وبتاريخ 23 نيسان (أبريل) جاءت تدوينة عن زيارة لبيروت كتبها صاحب "الطريق إلى جنة النار" في مناسبة مشاركته في مهرجان "بيروت 39" الذي نظمه "هاي فيستيفال" بشراكة مع معرض بيروت الدولي للكتاب احتفالًا باختيار المدينة عاصمة عالمية للكتاب في 2009.
مدن ومبدعون
تحضر بيروت في تدوينات أخرى، وكذلك بغداد والبصرة والقاهرة وأسوان والرياض والمنامة وأبوظبي ونواكشوط والجزائر، وتونس، وعمَّان، وأمستردام، ولندن وباريس، وفارنا وبرشلونة وبرلين ومونتريال ونيويورك وفيرمونت، وغيرها.
ويحضر ايضا مبدعون كثر: محمد شكري ومحمد المرابط وحسن نجمي وبول بولز، وأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح سيتيتية وفاطمة المرنيسي، ونجاة علي وخالد الناصري، وعبد الوهاب العريض، وعلي الشلاه وأسماء هوري وأحمد الشهاوي وميسون صقر وعبده وازن وعبير إسبر، ونبيل سليمان وجواد الأسدي ومحمود درويش ومفلح العدوان وجريس سماوي ولانا المجالي وصنع الله إبراهيم وأحمد أبو خنيجر، وغيرهم.
هكذا ايضا تحضر الأفكار، ثقافية كانت أو سياسية، من تدوينة إلى أخرى، معبرة عن قناعات صاحب برنامجي "مشارف" و"بيت ياسين، وبودكاست "في الاستشراق" ومنها مثلاً ما نبع من "محنة كورونا"، واحتوته تدوينة كتبت في باريس بتاريخ 1 أزار (مارس) 2020: "إن الغرب الذي طوَّر مقولة الفرد وعاش فرديته بالطول والعرض، يواجه اليوم مع هذه الأزمة رجَّة قوية قد تدفعه إلى مساءلة هذه المقولة بعدما انتبه إلى حدودها. والمؤكد أننا كالعادة سنقتفي أثره لنتراجع عن فردية لم نجربها بعد" (ص 266).