لا يمكن التعامل مع مشهد القصة القصيرة بوصفه كتلة صماء ثابتة، من جهة، أو بوصفه مشهداً منغلقاً على ذاته، من جهة أخرى. بل ثمة تنويعات متعددة داخله، وانفتاح على الفنون الأخرى في إطار التراسل بين الأنواع الأدبية المختلفة.
وربما يبدو هذا المدخل النظري حاكماً للنظر إلى مشهد متغير بطبيعته، ولحظة معرفية تتسم بسيولة لا نهائية.
ومنذ مجموعتيه القصصيتين "أم هند"، و"للروح غناها"، ثمة محاولة فنية لكتابة قصة تزخر بالكثافة التعبيرية، وتحتفي بالصورة السردية، لدي الكاتب المصري سيد الوكيل، الذي يمكن أن نحيل لديه على مشروع سردي يخصه وحده في متن السردية المصرية والعربية، يمكن أن نستعيد فيه أيضاً روايته "فوق الحياة قليلاً" التي توظف آلية المحاكاة التهكمية في معاينة المشهد الثقافي المصري، حيث سردية الكاتب الإقليمي، والناقد الإقليمي، وحظوة الصحافة الثقافية بلا مردود فعلي في انتشال الواقع الثقافي من عثرته، ويمكننا ان نستحضر أيضاً نصوصه السردية "شارع بسادة"، و"الحالة دايت"، وغيرهما.
بنية القصص
تتشكل "مثل واحد آخر" للقاص سيد الوكيل (دار ميتا بوك، القاهرة)، من أربعة أقسام مركزية "ضفاف الحياة البعيدة"، "همس الأرواح"، "انفعالات.. ليست لنتالي ساروت"، "حكايات عابرة"، تتفاوت في ما بينها في المساحة الكمية، فيحتل القسم الأول أكثر من ثلث المجموعة تقريباً (52 صفحة من 141)، ويتوزع الثلثان الأخيران على الأقسام الثلاثة.
في القسم الأول "ضفاف الحياة البعيدة"، يستهله الكاتب بنصه "قصة حب صوفي"، ويبدو العنوان هنا مراوغاً منذ البداية، حيث المشاكلة بين اسم "صوفي"، وتوصيف الحب نفسه بأنه صوفي.
يتبتل السارد الرئيسي في محراب حب صوفي منير حنا؛ وربما تبتل الأب أيضاً، والأب هنا (باترونيست حريمي) يحيل أفكار وتصورات مصمم الأزياء إلى جمال حي، ويحيل عمله على فعل الكتابة ذاتها، وهي التيمة التي يلح عليها الكاتب كثيراً.
تتعدد تجليات آلية المشاكلة في القصة، وتعني المشاكلة ذكر معنى بلفظ غيره لوقوعه في صحبة ذلك الغير وقوعاً حقيقياً أو مقدراً، وهي من مصطلحات البلاغة، وعلم البديع تحديداً.
ونصبح هنا أمام مشاكلة لفظية كما في اسم صوفي، وفكرة الحب الصوفي، بل والإحالة أيضاً على الكاتبة المصرية صوفي عبد الله إحدى رائدات الأدب النسائي المصري. وهناك أيضاً مشاكلة دلالية بين عالم الكتابة، وعالم صناعة الجمال ممثلاً في مهنة الأب "باترونيست حريمي"، وهي التي تتواتر في القصة ويختتم بها الكاتب قصته، بعد مراوحات زمنية، واستعادة لما كان، ثم عودة إلى لحظة القص الرئيسية: "عندئذ رأى نفسه، صبياً يقف على الدرجة قبل الأخيرة من سلّم الصندرة الخشبية. يحدق في ساقين جميلتين، فتعاوده دفقات هرمونية أثارت دهشته:
- ياااااه .. حتى بعد كل هذا العمر؟ ترى.. أين أنت الآن يا صوفي؟
قالت بصوتها الناعم: في دير الراعي الصالح..
عندما فتح عينيه. رأى البحر ساكناً كما هو، والفضاء بلا سحب، فهمس لنفسه: لا شيء يموت بداخلنا.. نعم ... كان أبي "باترونيست حريمي"، مهنة تأتي بعد مصمم الأزياء، لتصنع من خياله وجوداً جمالياً.. أليس هذا ما تفعله بنا الكتابة؟" (ص 17).
وتلوح في المجموعة قصص الحب المستحيل، سواء هنا في "قصة حب صوفي"، أو في "حكاية ننس" في ما بعد في نهاية المجموعة، حيث المآلات المحملة بالخيبة والإخفاق، وحيث يصبح الفشل نهاية لقصة الحب بين الشاب المسلم نبيل، والفتاة المسيحية الجميلة ننس، أو نادية نبيل سند، ولا يجد نبيل غير أشعار محمود حسن إسماعيل سلوى له، في نص يتبنى السارد الرئيسي فيه العامية خياراً جمالياً، ولغة للسرد.
يضفر سيد الوكيل الغناء في نصه، يعتمده آلية جمالية يبني عليها قصته "شباك حبيبي"، مستعيناً بأغنية المطربة نجاة الصغيرة (أما براوة براوة.. أما براوة.. شباك حبيبي يا عيني آخر طراوة"، وكاشفاً من خلالها عن حركة الفتيات الثلاث داخل الفضاء القصصي "محطة المترو".
كتابة الذات
في قصته "حجرة الأشياء المنسية" ينتخب القاص سيد الوكيل تاريخاً مفصلياً بالنسبة إلى بطله المركزي، عجوز على الحافة، يصل إلى الستين، مغادراً مكتبه الذي عمل فيه أكثر من ثلاثين عاماً، لكن ثمة شيئاً قد نسيه السارد البطل: "تركت شيئاً مهماً في درج مكتبي. هذا ما كان يلح علي وأنا في طريقي إلى البيت. هاجس لم أتمكن من السيطرة عليه، ولم يكن ثمة طريقة للخلاص منه، سوى أن أعود وأتأكد... ما الذي نسيت؟ لكنني متأكد أنه مهم... مهم جداً".
ويصبح هذا الاستهلال القصصي الأساس الذي يبني عليه الكاتب قصته، وتصبح آلية التذكر تقنية مهمة هنا، يمهد لها الكاتب جيداً، وتصبح تداخلات الحلم والواقع علامة على التشظي الذي يجتاح الذات الساردة الموزعة بين عوالم مختلفة، عززتها - ومن ثم - سياقات زمنية متباينة داخل القصة. وتصبح حجرة الأشياء المنسية هي التفاصيل الدقيقة والحميمة القابعة في الذاكرة، ويصبح كل منها علامة على شخصية مؤثرة في حياة السارد، فالقداحة "الرونسون" من رائحة أبيه، و"الشيك" التائه في كتاب لم يعد يتذكره يحيل على صديقه محمد عبد العال الذي عاد نعشه في الطائرة، وقد نسي السارد قصاصة الجريدة التي حملت نعي صديقه الراحل.
دوماً هناك "هدى كمال" لدى سيد الوكيل، تجدها في روايته "فوق الحياة قليلاً"، وفي مجموعته القصصية "مثل واحد آخر". وهنا يمكن أن تتعامل معها على نحو خاص، حيث الذكرى العالقة في الروح مثل صورتها المعلقة في حجرة الأشياء المنسية، حيث ثمة ارتحال في الذاكرة، وفي لا وعي الشخصية القصصية في "حجرة الأشياء المنسية".
تقاطعات الزمن
في "سيرة الإطفائي"، نصبح أمام كتابة مختلفة، تتهادى فيها دوائر السرد، وتتقاطع داخلها مساحات الحكي بين الماضي، والحاضر: "تسربت إليه من بعيد، وربما من أزمنة انتهت. إنها رائحة شيء ما يحترق، ملأت أنفه حتى أيقظته. فرك عينيه وتحرك إلى حافة السرير. بقدمين دافئتين، تحسس موضع الخف المبطن بالفراء. اصطدمت قدماه ببرودة البلاط، عندئذ انتبه إلى أن الخف لم يعد له وجود في البيت، وتذكر كل المحاولات الفاشلة في العثور عليه.
ها هو يمشي بقدمين حافيتين إلى الردهة، مهتدياً بالضوء الشحيح المنبعث من الطريقة الضيقة المفضية إلى المطبخ. كل ما يفكر فيه الآن، أن يعرف مصدر تلك الرائحة التي ألفتها أنفه، لتميزها برهافة كلب بوليسي بين آلاف الروائح.. شيء ما يحترق.
تنفس بارتياح عندما رأى لوحة الكهرباء هادئة في مكانها، وفي المطبخ ألقى نظرة على موقد الغاز فوجده مطفأً بارداً كما ينبغي لعجوز في ليلة شتوية كهذه. كثيراً ما كانت زوجته ترغب في شراء موقد جديد غير ذلك المتداعي، يرفض بصرامة لا تفهمها:
- لن تجدين ماركة أفضل من هذا، إنه من صتع المصانع الحربية".
هنا نجد ضابط الشرطة الشجاع "ماهر"، أو الإطفائي الذي أنقذ البيانو الأسود التاريخي الذي أهدته أوجيني إلى الخديوي إسماعيل، ثم الوحدة التي باتت تأكله، بعد أن أحيل إلى التقاعد، ومشاعر الفقد التي سيطرت عليه، وجعلت التفاصيل الصغيرة عناصر متجددة للألم.
وفي القسم الأخير "حكايات عابرة"، تلوح قصص تعتمد بنائياً على تكنيك المفارقة، وتتسم بالقصر النسبي، من قبيل "موعد غرامي"، "طلب إعانة"، "كبرياء"، وتبدو فيها الكثافة التعبيرية، والمشهدية البصرية سمتين مميزتين للكاتب، وللنصوص معاً.