إِنه اللحن الإِسباني الذي شاع بالعربية في لبنان والعالم بصوت فيروز في أُغنية "لبيروت... من قلبي سلامٌ لبيروت". وكثيرون يعرفون نُسختَه الفرنسية Amour Mon ونُسَخه الأُخرى في عدد من اللغات العالمية، وجميعُها مأْخوذةٌ من النسخة الإِسبانية الأَصلية وعنوانها "أَرانْخْوِيْثْ" (Aranjuez) للمؤَلف الإِسباني خُوَاكِيْن روديغو.
في الحلقة الأُولى من هذه الثلاثية فصَّلْتُ تاريخ مدينة أَرانْخْوِيْثْ وعلاقتها بكونشرتو رودريغو.
في هذه الحلقة أُفصِّل معلومات عن سيرة رودريغو ومسيرته.
العبقريّ الضرير
ولد خُواكين روديغو في 22 تشرين الثاني/نوفمبر 1910 في مدينة ساغونْت على الضفة المتوسطية من إِسبانيا. بعد إِصابته بفقدان البصر انتقل به والداه إِلى فالنسيا وسجَّلاه في مدرسة للمكفوفين. تابع دروس الموسيقى في كونسرفاتوار فالنسيا بين 1917 و1922. كان رافاييل إِينياث يساعده في تنقُّلاته. لاحقًا أَصبح صديقه الدائم وسكرتيره وناسخ أَعماله، وهو الذي عرّفه إِلى الأَدب الإِسباني والفلسفة وكبار المؤَلفين العالميين.
نجاح بعد نجاح
سنة 1932 نال رودريغو الجائزة الثانية في "المسابقة الوطنية الإِسبانية للتأْليف الموسيقي". ثم انتقل إِلى باريس، وتعرَّفَ بعدد من المؤَلفين الموسيقين فيها، بينهم صاحب "البوليرو" موريس رافيل (1875-1937) والإِسباني مانويل دوفالّا (1876-1946). خلال الحرب الأَهلية الإِسبانية (1936-1939) تنقَّل بين فرنسا وأَلمانيا وسويسرا والنمسا، ووضع فترتئذٍ عددًا من المؤَلفات الموسيقية.
سنة 1939 عاد إِلى إِسبانيا وتزوَّج في فالنسيا من عازفة البيانو التركية فيكتوريا كامهي (1905-1997) ورزق منها سنة 1941 ابنته الوحيدة سيسيليا.
في وقت لاحق تم تعيين رودريغو رئيس الدائرة الموسيقية في إذاعة إِسبانيا الوطنية، وسنة 1939 عُيِّنَ رئيس برنامج "مانويل دوفيلّا" في جامعة مدريد. وسنة 1980 نال المدالية الذهبية من وزارة التربية والثقافة، وسنة 1991 كرَّمهُ الملك خوان كارلوس الأَول بلقب "مركيز حدائق أَرانْخْوِيْثْ"، وسنة 1996 نال أَول جائزة "ملوك أستورياس" في الدورة الأُولى لإِنشائها.
قصة وضع الكونشرتو
تأْليف هذه المقطوعة كان بدافع من مركيز مقاطعة بولارك، وكان عاشقًا الموسيقى. التقاه رودريغو في 30 آب/أُغسطس 1938 في المدينة الإسبانية البحرية "دونوستيا سان سيباستيانو" خلال غداء كان يحضره كذلك عازف الغيتار الشهير الإِسباني "ريجينو سيانيز دو لا مازا". سأَله المركيز: "لماذا يا رودريغو لا تؤَلِّف مقطوعة يعزفها لك ريجينو"؟ فأَجابه رودريغو على الفور: "اعتَبِرْها انتهَت". قالها وهو يُفرغ الكأْس الخامسة من النبيذ. وهكذا كان: وضع رودريغو الكونشرتو وأَهداه إلى ريجينو.
لاحقًا، في مذكرات رودريغو ورد بتاريخ 11 تشرين الأَول/أكتوبر 1943: "كلُّ ما يتعلَّق بكونشرتو أَرانْخْوِيْثْ باقٍ في ذاكرتي بكامل تفاصيله. من ذلك أَنني أَذكر، بعد شهرين على تلك الجلسة مع مركيز مقاطعة بولارك، كيف كنتُ في شقتي الباريسية الصغيرة - شارع سان جاك، في قلب الحي اللاتيني – وكانت تدور في صمتي أَجواء الكونشرتو. فجأةً تناهت إِليَّ موسيقى الأَداجيو (وهو يقصد الحركة الثانية، وهي الأَشهر عالَميًّا) فهرعْتُ فورًا إِلى تـأْليفه كما سمعتُه في صمتي".
رودريغو الضرير إلى البيانو بطريقة"براي"
كيفية تأْليف الكونشرتو
أَنجز روديغو "كونشرتو أَرانْخْوِيْثْ" سنة 1939، وقدَّمه للمرة الأُولى في برشلونة مساء 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 1940 فاندلعت شهرته فورًا، وعُرِفَ أَنه وضعه من أَجواء حدائق قصر أَرانْخْوِيْثْ، أَحد أَجمل منتجعات بوربونيِّي إِسبانيا. ومنذ العرض الأَول أَحب جمهورُهُ مقاطع الغيتار، ولاحقًا أَدَّاها الإِسباني عازف الغيتار ساحر عصره أَندريس سيغوفيا (1893-1987). بعد تلك المقطوعة أَلَّف رودريغو مقطوعات كثيرة أُخرى للغيتار والبيانو والكمان والفيولونسيل والهارْب وسواه، ومقطوعات للغناء وأُخرى لموسيقى الحجرة والفلامنكو. ولأَنه كان ضريرًا، كان يعمل بطريقة "براي" للمكفوفين، فيؤَلِّف كلَّ مقطع صغير على حدة، ويُمْليه على الناسخ نوطةً منفصلةً بعد نوطة، ما كان عملًا مرهِقًا يأْخذ الوقت الطويل عوض أَن يكتُب هو موسيقاه. وحين ينتهي من إِملاء نوطاته على الناسخ، كان يطلب من زوجته فيكتوريا أَن تعزفها على البيانو، قبل أَن يرضى عن العمل ويرسله إِلى ناشره كي يتولى طباعته كي يكون متوفرًا للعازفين.
كتاب عنه: "رودريغو - نور في العتمة"
أَجواء الكونشرتو
كان رودريغو يرمي من مقطوعته "أَرانْخْوِيْثْ" أَن ينقل سامعيها إِلى مكانٍ آخَر وزمنٍ آخَر، فيقدِّم لهم أَجواء المانيوليا وتغريد العصافير وسقسقة المياه في السواقي، كما عاشها جميعها في حدائق قصر أَرانْخْوِيْثْ. وفي وقت لاحق كتبَت زوجتُهُ فيكتوريا في مذكراتها أَن رودريغو وضع تلك المقطوعة استرجاعًا لأَيامهما خلال شهر العسل في "حدائق قصر أَرانْخْوِيْثْ".
هكذا صدر "الكونشرتو" حاملًا أَجواء مدينة أَرانْخْوِيْثْ في نهاية القرن الثامن عشر ومطالع القرن التاسع عشر، أَي بين بلاط كارلوس الرابع وبلاط فرناندو السابع. من هنا ما جاء في المقطوعة من أَجواء إِسبانيا الداخلية الخالدة السعيدة المترفة قبل أَن تقتحمها أَجواءُ فرنكو الديكتاتورية، وتُظلِمَ تلك الأَجواء.
طبعًا لم يكن رودريغو يحدس أَنَّ مقطوعته هذه ستندلع شهرة في العالم كما جرى تباعًا سنة بعد سنة.
كيف اندلعت شهرة الكونشرتو في العالم؟
من عَزَفَهُ بعدهُ؟ ومَن غنَّاه في عدد من اللغات العالمية؟
هذا ما أُفصِّلُهُ في الحلقة الثالثة والأَخيرة من هذه الثلاثية.