يذهب الباحث المصري محمد دوير إلى أن "العقلانية القلقة" عند طه حسين، "هي جزء أصيل من عقلانيتنا الإسلامية، الممتدة في جذور التاريخ منذ أن اصطدم المسلمون بأجناس غير عربية بعد الفتوحات".
في خلاصة الدراسة التي أنجزها دوير وصدرت في كتاب عنوانه "العقلانية القلقة في فكر طه حسين" (الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة سلسلة كتابات نقدية)، يعتقد الكاتب أن "العقلانية الإسلامية"، أنتجت عموماً، سواء في الفقه أو علم الكلام، نصاً دينياً موازياً للنص القرآني ومتماهياً معه ومعضداً له، وشارحاً ومفسراً.
هكذا انطبع العقل العربي الإسلامي منذ لحظاته الأولى بعقلانية توافقية، سرعان ما تحوَّلت إلى عقلانية قلقة مع التجارب التي دفعت العقل إلى أن يقدم استجابات متعارضة أحياناً مع خط العقل المستقيم في الحكم على الأشياء والظواهر.
يرى دوير أن طه حسين لم يفعل أكثر مما تعلمه من الدرس العربي الإسلامي، فجاءت عقلانيته القلقة لا تثقل الاهتمام بتاريخنا القديم، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً ودرساً وبحثاً وتأثيراً. بل ترى الأدب هو النموذج الأكثر قيمة في فهم التطور الاجتماعي، رغم إقراره في نظريته عن المرآة العاكسة بين الأدب والمجتمع، وبأن الأدب هو أحد مظاهر الكشف عن التطور الاجتماعي، معتبراً أن اللغة وسياقاتها وأدبها مؤشرات كافية لدراسة العقل العربي.
والعقلانية وفقاً لدوير تعني ذلك الدور المركزي الذي تقوم به ملكات الفهم الإنساني في تفسير ظواهر الكون، وبيان معقولية العالم، وكشف السببية المؤدية إلى تلك النتائج التي نتعايش معها، والتحكم في تخارجات الطبيعة وسلوك الإنسان، ثم إنتاج مقولات مستمدة من تلك الملكات؛ قادرة على وصف العالم وصفاً يبدو ممكن الفهم.
حتمية الشك
هل التشاؤم هو مصير كل عقلانية؟ يجيب الكاتب: بالطبع لا، وإن كان يفتح آفاق الوعي على مستويات عدة، لعل أقصاها هو المُفضي إلى الشك. لكن حالة الشك تلك كانت عند العميد مبررة بظروف الحياة الاجتماعية والسياسية وحالة التناحر والفوضى التي عمَّت العالم الإسلامي نتيجة الفتوحات في مناطق عدة.
ويرى دوير أن التقاليد السياسية حينئذ كانت أقل من أن تستوعب التحولات الاجتماعية، فضاق ثوب السياسة على الجسد الاجتماعي وانفجر الموقف، وضلَّ العقل الإسلامي طريقه، أو قُلْ بنظرة أخرى: أبصر طريقه.
وحينئذ لم يجد أمامه سوى العقل الشاك والمتشائم، وخاصة لدى النخبة من الشعراء - ومنهم مثلاً المتنبي وبشار وأبو العلاء - التي عبَّرت عن نفسها وواقعها وحواضرها بتلك الطريقة التي انتقدت كل شيء.
وهو أمر عرفه العقل الأوروبي الحديث، بما يعني أن التشاؤم – بحسب دوير – هو مرحلة تاريخية تمرّ بها الشعوب والحضارات كافة في لحظات أزماتها. ولاحظ دوير أن طه حسين رصد في هذا المضمار الكثير من الأدب المتشائم عبر العصور المختلفة. وخلص إلى أنه؛ سواء رضي الناس أم سخطوا، فإن التشاؤم ظاهرة طبيعية في حياة العقل تبدو في ظروف معيَّنة ملائمة لها، كالظروف التي أحاطت بفرانز كافكا أو التي أحاطت بحياة أبي العلاء المعري قبل عشرة قرون.
يعتقد دوير في هذا السياق أن إشكالية طه حسين، الذي كتب عن الأدب الجاهلي وعن شعراء القرون الهجرية الثلاثة الأولى؛ تمثَّلت في العقل العربي المعاصر، الذي رأى أنه يعاني مشكلات عدة؛ أهمها مشكلة تحديد مفهوم "الماهية" بالنسبة للتراث.
ومن ثم انجذب ذلك العقل إلى هذين المطلقيْن: المأثورات العقائدية من ناحية، والحضارة الليبرالية من ناحية أخرى. إلا أنه تحرَّر من ربقة المطلق الأول في السنوات الأولى من القرن العشرين، وتهيَّأ لتذوق التراث بعد تجديده، من خلال إسهامات محمد عبده وقاسم أمين ومصطفى عبد الرازق، وغيرهم في عدد من الأقطار العربية.
نحن والآخر
في الكتاب نقرأ أنّ طه حسين كان يرصد واقعاً يحياه في النصف الأول من القرن العشرين، ولم يكن يدري أن سنوات النصف الثاني من القرن نفسه ستشهد عودة جارفة الثنائية الأصالة والمعاصرة وغيرها من الثنائيات من مثل نحن والآخر، الشك واليقين، بصورة أعنف مما كانت عليه في السابق.
هكذا لم يكن أمام طه حسين إلا تبني العقل النقدي الذي لم يكن سوى واجهة لاستبدال عقل بآخر، أو نمط تفكير بغيره، فجاء عقلاً باحثاً عن أدوات حديثة لمعمل البحث الجديد الذي حاول العميد أن يؤسسه – مع آخرين - في عالمنا العربي.
وهو في هذا السياق لم يكن يدعو إلى عقلانية متحررة من واقعها الاجتماعي، بل سنراه يدعم تلك العقلانية التي تنطلق من العقل إلى الواقع، ثم ترتد في حركة عكسية محمَّلة بالخبرة من الواقع إلى العقل بعد أن يكون قد فعل فعله التنويري والتثويري. رحلة طه حسين العقلية إلى الغرب إنما كانت تهدف، وفقاً للمؤلف، إلى التزود بمناهج نافعة ـ وقد ثبت بالتجربة العملية نفعها - ونقْلها إلى عالمنا العربي.
وهو لم يسع إلى القطيعة مع التراث كما فعل الحداثيون الأوروبيون، ولم يفكك المشروع الديني مصلحة مشروع علماني، فهو من دعا إلى ألا تخالف أي مادة في دستور 1953 (في مصر) نصاً في القرآن.
ومن هنا صحَّ القول إن عقلانية طه حسين كانت مقيَّدة محدودة، قلقة تدفع العقل نحو التخارج للحياة العامة، ولكنها تقيد مستخرجات هذا العقل بالنص الذي يسمح له بإمكانية تأويله على أفضل الأحوال، فجعل النصَّ فوق كل شيء؛ حتى ما يمكن أن تتفق عليه الجماعة أو نخبتها، وهم، في ذلك المثل، مَن تشكَّلت منهم لجنة إعداد الدستور المذكور.
تداخل مربك
بحسب الكاتب، جاءت العقلانية القلقة في فكر طه حسين من مصادر عدة. أولها التنوع الصوتي عنده: ذلك أن النصوص الثقافية في مؤلفاته المتنوعة هي متعددة الأصوات، فلا يكاد المرء يرى من بينها صوت طه حسين الحقيقي أو أولوياته الفكرية.
ويضيف دوير: "لن تستطيع رؤيته كمفكر وباحث ومجدد وثوري... إلا من خلال التداخل المربك والمرتبك، فقبل طه حسين لم نعتد على الفحص العميق أو البحث المتنوع والجدية داخل عقل واحد، وتكاد تكون أيضاً في مرحلة زمنية واحدة من عمره. وربما كان هذا الزخم والتراكم المتتالي وحالة السيولة المعرفية التي صبَّها في حالتنا الثقافية، يفرز حالة القلق لدى قارئيه ومتابعيه أيضاً، فلا تكاد تقرأ له مقالةً أو كتاباً أو مجموعة آراء نقدية حتى تشعر بحالة من عدم الراحة أو الطمأنينة".
ومن تلك المصادر أيضاً طابعه البراغماتي: ففي كتاباته وإنتاجه الفكري، وفي صدى صوته الذي يصدح لك كأنه من خارج البرية، تشعر أن تلك الكلمات لا تنتمي إلى عصرها، بقدر ما تحمل جنسية وطن مستقبلي، وعالم ثقافي مصري أو عربي لم يأت بعد. ومن تلك المسافة التي يوجدها نص طه حسين، بين الواقع والمستقبل من جهة، وبين الحالة الثقافية التي يفرضها عليك النص من جهة أخرى، تبدو الكتابة نوعاً من تصدير القلق لقارئها، القلق الناجم عن حالة الشك التي كانت تمتلئ بها كل جدران معبده المعرفي والثقافي والإبداعي.