يعرف المتمرّسون بالكتابة الروائية جيداً أن الرواية فنُّ صنعةٍ ومضمارُ لعب، ولكل صنعة قواعدُها وأدواتُها ومادتُها وطريقتُها.
وإذا لم تُحترم هذه المقتضيات تتهافت لتغدو كلاماً مهدوراً ولغواً بلا طائل، لأن الفن كما يصنعه المتمرّسون عناصر، وله عُدّةٌ كتابيةٌ وتشكيليةٌ محددةٌ تصلُح له وحده، وهذا ما لا يدركه من يزعمون الخلط بحجة انفتاح الأجناس الأدبية بعضها على بعض، وهم لم يتملّكوا الأصول، وكيف تتخلّق الكتابة بقواعدَ كما النباتُ مع الفصول، فما نعلمه في الطبيعة أن لا شجرةَ تورق أغصاناً وتيْنع، بلا جذور.
جميع الدارسين والنقاد الجادين والكتّاب الحاذقين تعلموا وكبروا في مدرسة البويطيقا لأرسطو (فنّ الشعر) نظّرت وفصّلت القواعد والسّنن الفنية النوعية في ضوء ملاحم موضوعة، فكل قاعدة تُبنى على نص يعود النص ليستند إليها.
الخطط التي جاءت بعد مدرسة أرسطو ما هي إلا تطريز على ثوبها واجتهاد في مقاييسها ونظامها. وكيفما كان التغيير الذي يُدرج فيه جنس الرواية عبر تاريخه الطويل جذره كان ويبقى هو "التراجيديا" التي وضع قواعدها صاحب كتاب La Poetique (حوالي 355 ق م) ضمن تصنيفه للأنواع إلى نموذجين ومرتبتين لن نخوض في تفاصيلها هنا، غرضنا الوصول إلى الضمائر النحوية للسرد.
من زمن "التراجيديا"
في التراجيديا اليونانية التي بنى عليها أرسطو قواعد البويطيقا يحضر صوت جماعيّ، أولاً، وممثل واحد يؤدي دور الجميع (البطل والمرسَل والإلهي) والمونولوغ مهيمن عند إيسخيلوس. مع سوفوكليس، يحضر الحوار وظيفةً وتتعدد الشخصيات، كما في (أوديب ملكاً)، ومن المفيد الإشارة إلى أن هذا التحول تمّ في قرن عظيم كان العالم الإغريقي قد بلغ فيه ذروته؛ في عصر ذهبي شهد ثلاث ولادات: الديموقراطية، والفلسفة، والتراجيديا، وعرف الانتقال التدريجي الخطير من الميتوس (الإلهي، الأسطوري، والتصور المقدس للإنسان والكون حيث تسود العقيدة) المتضمّن للتيوقراطية نظام حكم، إلى اللوغوس (الذي ينهض على ممارسة العقل)، ويُسقِط فكرة الخضوع الأعمى لكائن أسمى، كي يتمّ اختيار الحاكم بناءً على مقياس عقلي.
أضف أن العبور من الميتوس إلى اللوغوس يُعدّ ثورة حقيقية في الفكر البشري نظراً لنقلنا من زمن الآلهة إلى زمن الإنسان، وهو زمن تاريخي والقصة فيه كتابةٌ لا شفوية، لنصل إلى فارق آخر أخير ذي دلالة جوهرية حيث يتبوّأ الفرد في اللوغوس الحضور في المقدمة.
هذه كلّها وغيرُها يتعذّر وصفُها هنا مقدمات للموقع النّحوي والصرفي والتشخيصي الفاعل للضمائر في الرواية والكتابة السردية الحوارية، عموماً، إذ هي قرينةٌ ومتصلةٌ بتكوين الكائن الفردي وانبثاقه من صيرورة فكر الأنوار الذي واجه هيمنة الإقطاع وسلطة الكنيسة ومعتقداتها وفتح مفكروه وفلاسفته عهداً جديداً لسيادة العقل ونشر الحريات والحقوق مِهاداً لتصحيح بل وتغيير الأوضاع الاجتماعية وما تلاها من ثورات اقتصادية وصناعية قلبت المجتمعات الغربية في القرن التاسع عشر خاصة، رأساً على عقب، وظهرت الحركة الرومانسية بروحها ومفهومها الثوري الذي أطلق العنان للتعبير عن المشاعر وكسر قيود الجمود والكلاسيكية الجافة.
وضعية "الأنا"
في هذه الأرضية تبلور وضع جديد لـ"الأنا" وتطور لم يعد (غنائياً lyrique) وحسب، بل ارتبط بشروط واقع جديد مستجِدّ أصبحت الرواية هي الجنس الأدبي المعبِّرُ عنه بامتياز، هنا حيث البطولة للفرد بالدرجة الأولى ومعضلاته ضمن تغيرات العلاقات الاجتماعية والمصالح الاقتصادية ومعها، بالطبع، انهيارُ قيَم وولادةُ أخرى مكانَها.
من هنا جاء التعريف الجوهر للبطل الإشكالي عند جورج لوكاتش بوصفه الباحث عن قيمٍ مثالية في عالم منهار. ذلك أن الرواية فن لوغوسي ولا يمكن أن تكون إلا إشكاليةً أو لا تكون، وهذا ما لا تستوعب مفهومه وتاريخه كثير من الأقلام فتكتب الإنشاءَ والخواطرَ بدل السرد الفني المنظم الذي تُعّدُّ الضمائرُ ومواقعُها مركزيةً فيه وبواسطتها تتحدد الرؤى، وهو ما رسمه جيرار جنيت في دراساته (الناراتولوجية) للموضوع ويعيها الكتاب المتمرسون من عُرب ومن عجم.
لقد كان الطريق طويلاً وشاقاً للإبداع الروائي العربي كي يصل إلى استعمال الضمائر (المتكلم، والمخاطب، والغائب) والمتكلم مهمازُها كثيراً ما يُشغِّل الإثنين الآخرين ويموِّهُهُما وخارج السيرة الذاتية المبنيّة على أنا صريحة يكون آخر، وتمثيل الأنا فيه ذو صيغة نحوية فقط.
الشعراء العرب الذين جاهروا بأناهم عاريةً وصارخةً في زمن الثقافة العربية الكلاسيكية نُظر إليهم كمرضى وشواذ لإنشادهم بالصوت الشخصي الخارق وجهرِهم بالرأي المستقل عن القول المقدس (الميتوس، بمكوناته وسلطاته).
جورج لوكاتش
المتنبي وأناه
وما زال المتنبي يُدهِش إلى اليوم من يسمع قوله: "أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي/ وأسمعت كلماتي من به صمم"، ونسخَه محمد درويش الذي يحفظ شعر أبي الطيب غيباً وهو يتساءل ملتاعاً: "من أنا لأقول أنا؟!" رغم أن القصيدة العربية الحديثة خرجت بهذا الصوت ومثّلَ مكوّناً أساساً لها إلى جانب العنصرين العروضي والخطابي، ولم يكن هذا عسيراً فهي خرجت من رحم التراث نوعاً ما زيادةً على محدوديتها، خلافاً للنثر الذي وجد صعوبات جمّة ليندرج في الخطاطة البويطيقية الأجناسية لأرسطو، التراجيديا على رأسها، والتجنيس روائياً أبعد من الحكائية الخبَرية والشفوية للتراث (السردي) يجب أن يأتي في سياق انقلاب جذري للواقع بتكويناته المركبة، وهو ما كان ولا يزال صعب المنال، في القلب منه فلسفة وأيديولوجيا حضور الضمائر وماهيتِها وكيفيةِ استخدامها وقانونها statut وهذا قبل أن ننتقل إلى صنعة الفن بحقٍّ وحقيق ليست موضع مزاح وطيش نزق.
إن مقابل ضمير في الفرنسية هو conscience أي وعي الذات، والوعي حضورُ الفكر بحرية وامتلاكُ سيادة الرأي والنقد. قبل هذا يجب تَوفُّرُ ذاتٍ مفردة، حرةٍ، متملّكةٍ لقدراتها والتصرف فيها، ضمن شروط سوسيو - اقتصادية وثقافية تنمو في وسطها وتؤهل معاملها ليقول (أنا).
هذا الضمير النحوي الناطق في السرد العربي وهو عمادُه شكلي ومستعار، لأنه غير متحقق في الواقع، غيرُ موجود بصفة المواطنة وحقوقها، بصوت وكيان ينهضان على أرضية صلبة نتيجة صراعات طويلة المدى صنعت الشروط المادية للإنتاج الأدبي (كما حدده بيير ماشيري 1966).
لذلك فإن المناهج التي تدرُس وتحلّل النصوصَ السرديةَ والشعريةَ الغربية منسجمة مع هذه الشروط ومنبثقةٌ من بيئة محكومة بميكانيزماتها، وحين يستعملها الدارس والناقد العربي فهو يقوم بعمل مضاعف ومتكلّف، يستعير طرائقَ ومصطلحاتٍ وأدواتِ قراءةٍ وتحليلٍ لمتن غريب عنه لا صلة له البتّة بمجتمعه وثقافته، وأفضل تبرير هو أن استعماله لها إجرائي.
لا يختلف الأمر هنا عن التمثيلات للهياكل والمؤسسات ذات الصفة الديموقراطية حيث هي متأصلةٌ راسخةٌ في بلدانها، وهشّةٌ صورِية في بلدان غيرها ولا يُعنى المعنيون بها بمحتواها. في الرواية الغربية، مفهوم البطل بأنواعه مبنيٌّ على قاعدة الذات الحرة ووعيها الحادّ بها تجاه المجتمع والوجود، نسقُها ضمير الـ(أنا).
في روايتنا يُبنى كيان البطولة ويتجسد على مشروع عسير، أولاً، وإشكالي، ثانياً ودائماً، لصنع مكان للذات وفرض نسق ضمير الـ(أنا). فيا له من فرق شاسع. لذلك فإن استخدام الروائي للضمائر (المتكلم، المخاطب، الغائب) ليس اعتباطياً بل مصدره موضوعي، وغلبة السارد العليم سببُه استبدادٌ سابق، وعجزٌ عن تحمّل تبعة خطاب هذه الضمائر عارياً، إن للشكل محتواه، وللضمير النحوي قانون ينبغي أن نعيَه. لا تستغربوا بعد هذا لماذا هي قليلة السيرة الذاتية ونتحايل علي كتابتها بسرد روائي مقنّع.