إذا رددنا كل إبداعات الإنسان إلى أصلها وفلسفتها، فهي تنشد ثلاث قيم وترسخها: الحب والخير والجمال، ثم تدافع عنها ضدّ نقيضها.
وبرحيل الفنان التشكيلي المصري الكبير حلمي التوني (1934 ـ 2024) عن 90 عاماً، خسرنا رسام "الحب والخير والجمال" وفارساً أنيقًا أضاف للفن والإنسانية.
ليس في الأمر مبالغة تستوجبها العزاءات، لأننا نتحدث عن رجل وهب خطوطه وألوانه وعبقريته لأكثر من 4 آلاف غلاف لكتب عربية.
نتحدث عن التوني الذي رسم وصمّم أغلفة جميع روايات نجيب محفوظ، وجسّد بصريًا جميلات نصوصه، في طبعات دار الشروق المعروفة والرائجة عقب فوز محفوظ بجائزة نوبل.
قامة كبيرة من قامات تصميم ورسم الأغلفة والمجلات، ينتمي إلى جيل الموهوبين العظام أمثال جمال قطب ومحيي الدين اللباد ومحمد حجي. كما ارتبطت ريشة التوني لعقود بمجلة "العربي" الكويتية العريقة، وتأسيس مجلة "شموع" الثقافية، ومجلة "وجهات نظر"، ومجلة "الهلال" العريقة.
فخ البدايات
ولد حلمي التوني في 30 نيسان/ أبريل في بني سويف التي تمثل نقطة التقاء مصر العليا (الصعيد) بمصر السفلى (الدلتا والوجه البحري) أي أن روحه تشرّبت قصص ووجوه الصعايدة والفلاحين معًا، حكايات ورسومات مبدعين فطريين.
وفي قاهرة المعز درس في كلية الفنون الجميلة وتخصّص في الديكور والزخرفة، وهنا لا بدّ من الالتفات إلى فخ البداية. تلك اللحظة التي يبحث فيها شاب موهوب عن هويته. فالملاحظ أن التوني لم يسجن نفسه في إطار تصور معين للفن التشكيلي، لكنه كان واعيًا بأن هناك جانبًا حرفيًا كصانع ومصمم كتب ومجلات، وجانبًا يرتبط أكثر بموهبة ومزاج الفنان التشكيلي في الرسم بالزيت.
وكان بارعًا في تلبية احتياجات السوق وإكراهات المواعيد الشهرية، دون أن يتخلّى عن قيمه الجمالية التي بلورها بصبر، عبر زمن طويل.
قد تكفي نظرة بسيطة على مجلة "العربي" أو رواية محفوظ كي يدرك المرء روح التوني و"موتفياته" الأساسية، حتى وإن لم ينتبه إلى توقيعه. تلك عبقرية الفنان أنه لم يستسلم لمقتضيات السوق وشروط المموّل، بل ارتقى بالسوق إلى أحلامه الجمالية.
فخٌ آخر يقع فيه التشكيليون في مقتبل أعمارهم حين يعمدون إلى التغريب والغموض والانسلاخ عن هويتهم. لكنّ التوني كان واعيًا بهويته البصرية المستلهمة من روح مصرية عريقة انصهرت فيها ثقافات فرعونية وقبطية وإسلامية وعربية. لذلك، وبرغم تأثره بالمدرسة السوريالية ما وفرته له من حرّية في التكوين وتلاعب بين العلاقات، وشطح الرؤى والأحلام، إلّا أنه لا يعيد استنساخ روادها أمثال سلفادور دالي، وإنما فقط يستلهم فلسفتها للتعبير عن هوية مصرية وعربية. اعتبر نفسه تلميذًا في مدرسة الحياة نفسها، وابنًا للفنان الشعبي الفطري الذي يلون الجدران ويرسم على الزجاج بطزاجة وعفوية.
ولم يكن مشغولًا بأكذوبة الوصول الى العالمية، أو منتظرًا لاعتراف من آخر بعيد عنه، وبدلًا من التجول في أوروبا، كان يفضّل أن يقضي الصيف في بيروت التي احتضنت عددًا من معارضه منذ السبعينات واحتضنته هو نفسه حين طُرد من عمله في مصر بتهمة "الشيوعية" حيث عاش فيها ثلاث سنوات.
ولأنه مستغرق في هويته، لم يكن غريبًا أن يُكرّم أو يتعاون مع مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة واليونيسيف.
يحيا الحب
لم أكن أعلم حين جلستُ معه في شهر آذار/ مارس الماضي، عند افتتاح معرضه الأخير "يحيا الحب" في غاليري بيكاسو في الزمالك، أنه معرض وداعي، كأنه أراد أن تكون كلمته الأخيرة لنا "يحيا الحب".
الحب الذي دافع عنه دائمًا وأبدًا، بوصفه القوة النابضة المحركة للحياة، والمحفزة للخصوبة والتكاثر وتطور الكائنات، طاقة الإروس في مواجهة الثاناتوس، أي طاقة الظلام والموت والكراهية والتدمير.
لذلك ليس غريبًا أن يتفاءل بإقامة معارضه في فصل الربيع، مثلما تنتشر في لوحاته موتيفات الحب والخصوبة، كالقلوب الحمراء والورود والعيون الواسعة الحالمة والأسماك والأسود والقلائد.
فهو فيلسوف الحب بالخط واللون، وحين أقام معرضه "أم كلثوم: الهرم الرابع" عام 2008 لم يكن مجرد احتفاء بفنانة عظيمة، بل برمزيتها الخالدة كصوت عبّر عن كل معاني الحب.
سألته: "لماذا الحب يا أستاذ حلمي؟"
فأجاب: "تخيّل حياتنا من دون حب.. ماذا ستكون النتيجة؟".
آنذاك، ربما كان متردّدًا من إقامة معرضه في ظل حرب الإبادة في غزة، لكنه حسم أمره لإدراكه أن الحب أقوى ما يجمع بين البشر في مواجهة الحروب والفتن.
روح الطفل الخيرة
بعيدًا من الجدل الفلسفي هل الأصل في الإنسان أنه يولد خيرًا والشر طارئ على النفس؟ كان التوني مؤمنًا بالخير كمفهوم إنساني عام، يتجاوز قيود القوانين وتحيزات المذاهب والأديان.
خير طفولي كامن في الذات وينعكس في براءة الخطوط والفرح والأمل والألوان القوية الزاهية كالأحمر والأخضر والأزرق.
بهذه الروح تلاقت موتيفات قبطية وإسلامية وفرعونية في إبداعاته على أساس المحبة، وخصص جانبًا مهمًّا من تجربته لرسوم الأطفال. لأنه كان مؤمنًا بضرورة تربيتهم على الخيرية ومن أجلهم كتب "ماذا يريد سالم"، وصمم ملصقات للأمم المتحدة، وكذلك مسرحية العرائس "صحصح لما ينجح" لصلاح جاهين، وتوّج جهده بجائزة معرض بولونيا لكتاب الطفل، وجائزة سوزان مبارك أكثر من مرّة كأفضل تصميم كتاب للطفل.
تكمن الخيرية في احترام النظام والتكافؤ والعدالة باعتبارها قيمة منظمة للعلاقات بين البشر، تعزز الشعور بالأمان والسلام في العالم. وحين نزرعها في أطفالنا ـ بعيدًا عن روح التعصب والاستعلاء ـ نضمن أن يصبحوا بشرًا أسوياء محبين للحياة ومدافعين عن مباهجها.
سحر الأنوثة
القيمة الثالثة الأساسية في إبداعات التوني هي الجمال. صحيح أن الجمال غاية كل فن، لكن بعض الرسامين يفضلون الواقعية المفرطة وتجسيد القبح ـ كقيمة فنية ـ وإظهار العيوب والنقائص.
لكن روح التوني تأبى أن تصور مقلب قمامة. لماذا يصور ذبابة طالما يقدر أن يجعلها فراشة ملونة؟
قد تميل لوحاته للسوريالية أو المبالغة الكاريكاتورية، لكنها لا تفقد سحرها في تجسيد حالة مثالية معبّرة عن الفرح والجمال وسحر الأنوثة.
فمثلما يرى نفسه حارسًا للتراث محتفيًا بالوجوه الفرعونية، والطرابيش والشوارب واليشمك والملاءة اللف، فهو بالدرجة ذاتها حارس للجمال ينتصر له، كتعبير عن التناغم.
ليس الجمال سوى حالة تناغم بين كل عناصر الكون، بين الشارب والخد الأنثوي والوردة الحمراء والقمر في المحاق. ثمة موسيقى سرّية بين الأشياء كان التوني بارعًا في التقاطها وتجسيدها، ليكمل ثلاثية القيم التي وهب لها حياته.
من أصغر طابع بريد صممه مرورًا بأغلفة الكتب والمجلات، وانتهاء بملصقات أفلام ومؤسسات، كرّس التوني موتفياته التي لا تُنسى لخدمة فلسفته في الإبداع.
ولم تكن شخصيته منفصلة عن إبداعاته، فهو رجل هادئ الطباع، شديد الأناقة بألوان زاهية مريحة للعين، ومنديل أنيق في جيب الجاكيت، بسيط ومرح في التواصل مع الناس. ولم يخسر ـ فنانًا وإنسانًا ـ رهانه على الحب والخير والجمال.