النهار

​ألبرتو مانغويل... الحامي الأخير للمكتبة والكتاب!
أحمد المديني
المصدر: باريس- النهار العربي
في معظم بلدان العالم التي تعيش في سلام وينتظم بها مجرى الحياة على المستويات كافّة، يُعتبر الدخول المدرسيُّ والجامعي فترة طبيعية تشهد التحاق ملايين التلاميذ بالمدارس، وعشرات الآلاف من الطلاب بالجامعات. إنه الحق في التعليم يتجسّد ويتكرّس، وبواسطته تتحقق خاصيةٌ ملازمة وضرورية للإنسان تربطه بشرط المعرفة. يمكن لشعوب هذه البلدان أن تختلف في أنماط العيش ونُظُم الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والتقاليد والقيم والسنن الثقافية، وكلّ شيء، إلا في حتمية التعليم والتربية والرُّقيّ في مدارجهما، بهما صنعت البشرية تاريخها وراكمت تراثها الفكري وأرست عُمُد حضاراتها المتواترة. ابتكارُ الإنسان للحروف، واستخدامه الكلمات عبر أطوار وبأشكال أوصله في الأخير وبفضل اختراع الطباعة (يوهان غوتنبرغ 1389ـ1468) التي أوقفت نسخ الكتب يدويًا إلى مرتبة جعلت هذا حدثًا فاصلا حاسمًا بين عهدين في تاريخ البشرية شقت به الطريق الأوسع للتعليم والثقافة والإبداع.
​ألبرتو مانغويل... الحامي الأخير للمكتبة والكتاب!
ألبرتو مانغويل
A+   A-
في معظم بلدان العالم التي تعيش في سلام وينتظم بها مجرى الحياة على المستويات كافّة، يُعتبر الدخول المدرسيّ والجامعي فترة طبيعية تشهد التحاق ملايين التلاميذ بالمدارس، وعشرات الآلاف من الطلاب بالجامعات. إنه الحق في التعليم يتجسّد ويتكرّس، وبواسطته تتحقق خاصية ملازمة وضرورية للإنسان تربطه بشرط المعرفة. 
يمكن لشعوب هذه البلدان أن تختلف في أنماط العيش ونُظُم الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والتقاليد والقيم والسنن الثقافية، وكلّ شيء، إلا في حتمية التعليم والتربية والرّقيّ في مدارجهما، بهما صنعت البشرية تاريخها وراكمت تراثها الفكري وأرست عُمُد حضاراتها المتواترة. ابتكار الإنسان للحروف، واستخدامه الكلمات عبر أطوار وبأشكال أوصله في الأخير وبفضل اختراع الطباعة (يوهان غوتنبرغ 1389ـ1468) التي أوقفت نسخ الكتب يدوياً إلى مرتبة جعلت هذا حدثاً فاصلاً حاسماً بين عهدين في تاريخ البشرية شقت به الطريق الأوسع للتعليم والثقافة والإبداع. 
قد تستكثر الأجيال المعاصرة الإقرار بهذا، انصرف قسم منها إلى اعتماد وسائل ووسائط التكنولوجيا الحديثة للتعلم واكتساب المعرفة، واستغنى قسم ثانٍ عن القراءة اللهم زاد الضرورة. وهي غير معنية بالكتاب مثل أجدادنا أحدهم هو أبو عثمان الجاحظ  (776ـ867) من قال عنه إنه: "وعاءٌ ملئ علماً وظرفٌ حُشِي ظَرفاً". 
بعده المتنبي وما أبلغ قوله" "وخيرُ جليس في الزمان كتاب"؛ وثانٍ من عرق آخر من جبلّة الإنسانية الرفيعة اسمُه بورخيس، بعشرتهما العمر كلّه مع الورق هما صنوان، وحياتهما أمضياها بين القراءات واللغات والتنقيب في الأمهات حتى صار الكتاب عندهما بمثابة عبادة. ظننا بورخيس في هذا المضمار لا يُضاهى، صار فيه أسطورةً وقدوة. وإذا بنا، بعالم المكتبات والأسفار (ج سِفر) يلجُه ثالثٌ يعتبر الوريث الشرعي للعلمين السابقين، ولبورخيس، خاصة. ذلك أن أول ما اشتهر به ألبرتو مانغويل Alberto Manguel (1948ـ) أنه عمِل قارئاً لبورخيس بعدما أصبح كفيفاً، وهو ابن مدينته، أيضاً، بوينس آيريس، وتكونت سيرته واغتنت بالكتاب، فضلاً عن أنه مؤلف ومترجم وناشر، وإن كان يحب أن يختصر تعريفه بـ"قارئ". لا شك هذا تواضعُ الكبار، فالقراءة في الحقيقة اختصاص الرجل في مجمل تآليفه، والمكتبة العظيمة التي جمع ونمت وتنقلت معه ذخيرة حيثما رحل، وهو كثير التّرحال، طاف بها من المشرق إلى الأرجنتين موطنه الأصلي، إلى أوروبا، والمحيط الهادي فإلى كندا، ليتولى إدارة المكتبة الوطنية للأرجنتين من 2015 إلى 2018 على غرار سلفه بورخيس. 
 
 
في آخر طواف له حلّ بجنوب فرنسا حيث حصل على جناح كبير جمع فيه أربعين ألف كتاب لمكتبته، انتقل بها أخيراً إلى نيويورك، حيث يعيش الآن.
في هذه الفترة مما يسمى في العالم الغربي، وفرنسا، خاصة، بالموسم الأدبي la rentrée littéraire  يمكن استحضار ألبرتو مانغويل رمزاً للحفاوة التي يتجدد بها الاحتفال بالكتاب، في موسم يُطرح فيه جديده، ويتواصل الاحتفال على مدى شهرين إلى حين إعلان الجوائز. هذا ما بادرت إليه الأسبوعية الباريسية "le Un des libraires" في عددها الأخير، فأجرت مع مؤلف "تاريخ القراءة" حواراً غنياً لخّص فيه تجربته وهواه المتفاني بالكتب وفنّ المكتبة، أجد مفيداً تقديم أهم مقاطعه وأفكاره، تذكّرنا نحن العرب بميراث وطلاوة الشغف بالكتاب في تاريخنا الفكري، رغم الانقطاعات والانكسارات، وقيمة الإخلاص لذخيرة المعرفة بواسطته:
يفاجئنا مانغويل بقوله تستطيع أن تكون قارئاً محترفاً بدون أن تهتم بالكتاب بذاته، شأن بورخيس الذي ربما كان أكبر قارئ في القرن العشرين ولم يملك أزيد من 500 إلى 600 كتاب. خلافاً له، هو تربّى في أحضان هذا الشيء ومذ تعلم القراءة صار محاطاً به. 
في هذا الجو امتدت جذوره، ويقول: "الكتب مثلت لي دائماً جميع تجارب العالم صيغت بالكلمات، كلّها خضتها بدايةً بواسطة الكتب: الصداقة، الحب، المغامرة وحين عشتها في زمن لاحق أعطتني كيف أسميها". 
هل يُعنى بالكتاب الورقي بالضرورة أم بغيره؟ ماديةُ الكتاب عنده أساس، باقتنائه ولمسه، ولذا لا يحب إلا النصوص المطبوعة ويزهد في" الافتراضي"(virtuel). 
النصُّ المطبوعُ قابل للقراءة مرات، تضع له هوامش، تعلّق على الطُّرّة، ما لا يوفره الرّقمي يجبرك على السرعة والسهولة والمصطنع. هل يضع ملاحظات كثيرة على كتبه؟ يجيب بأنه يحبها لأنه يحاورها في الطُّرة. وهو يملك مخطوطاً يعود إلى القرن 13 وما زال يطالعه، صامد أفضل من أي كتاب رقمي عرضة للتلف. أفضل مثال يجسد عشق مانغويل للكتاب ما سماه "المكتبة المثالية" حين حصل سنة 2001 على فضاء رحب رتب فيه أربعين ألف مجلد فكان ذلك ذروة سعادته: "في هذا اليوم عرفت النعيم حقاً، ونمت ليلتي الأولى فيها، لأشمّها ملء رئتيّ، ذلك أن الكتب عندي كائنات حية، تكلمني وتتكلم في ما بينها، وأسمع فيها جميع اللغات والأصوات والأزمنة".
 
 
يقول إن المكتبة المثالية هي التي تشبهنا، ترى ما هذا الذي ترويه عنا مكتبتنا؟ الجواب هو أن "كل مكتبة هي سيرة ذاتية. الكتب التي على رفوفنا ترتبط بلحظات محددة من حياتنا، بتيماتها وهويتها الفيزيقية، بكونها أُهديت من صديق، مثلاً، ولدى زيارتنا للأصدقاء نتطلع إلى رفوفهم لنزيد معرفة بهم". حسناً. هل ينبغي لنا ترتيب مكتبتنا؟ يقول مانغويل المحترف المحنّك، هذا لا يصدق على المكتبة الشخصية، هو يعرفها بدون تصنيف، ولكلّ قارئ خريطته الحميمة والحدسية، وهو اختار الترتيب حسب اللغات. ثم إنه يتبع قاعدة أقرّها المكتبي الألماني الشهير Aby warburg  تنهض على قاعدة "حسن الجوار" هي أن المعلومة التي نبحث عنها توجد دائماً في الكتاب المجاور للكتاب الذي سحبت، بناءً على أن كل نظام ثقافي يقوم على القرينة: "نحن نفكر بالاستشهادات، أي أن الأفكار التي تمر بالذهن تكون مصحوبة بجمل قالها آخرون، وتأخذنا أبعد من حدود معرفتنا، لذا أقول إن الصدفة مكتبيٌّ جيد".
 
 
بعد خمسة عشر عاماً على استقراره في فرنسا غادر ما وصفه بمكان "النعيم"، فهل اختفت مكتتبه جرّاء هذا؟ يجيب بشعور من يعتصره الألم، بأن انتقاله إلى نيويورك في فضاء محدود لا يسمح بإيواء مكتبته، ترك كتبه سنوات داخل صناديق، كان يسمعها تئنّ ليلاً، إلى أن أُفرج عنها بانتقاله إلى لشبونة حيث اضطرّ لترتيبها بطريقة منظمة رسمية، وفي جميع الأحوال فالمكتبة حيّةٌ تعيش بداخله، بالأحرى تحمله معها، وهي أضحت بالنسبة إليه هيكلاً خارجياً يحمي هيكله العظمي، وهو يشبه سرطان البحر يحيا محمياً بعالم الورق والحبر. 
وماذا حين يُسأل ألا توجد خلفية سياسية أو نضالية من وراء نهم جمع الكتب وتقاسمها؟ هنا يكشف مانغويل عن خوف وتشاؤم يراود اليوم كثيرين ممن يخافون على مصير الكتاب والقراءة عموماً، يرى أننا "على حافة كارثة وأن نزعة انتحارية تتجلى اليوم بشكل مهول، ومع ذلك لا ينبغي الاستسلام، فقد رُوي أن سقراط قبل أن يجرَع السُّمَّ الذي حُكم عليه بتناوله بساعات، كان يحاول تعلم النفخ في النّاي، سيبقى دائماً كتابٌ نقرأه، وأن نتقاسمه مع الأصدقاء حتى في اللحظات الأخيرة للوجود. لذلك ينبغي أن نستمر، وكما قال صمويل بيكيت، جرّبنا وفشلنا، لا يهمّ، لنجرب مرة أخرى، وأن نفشل فشلاً جيداً".  
 
 

اقرأ في النهار Premium