جمع الروائي التونسي كمال الرياحي في كتابه "الرواية تموت أم تترنّح " الصادر عن دار النّهضة العربيّة (طبعة أولى 2024) سلسلة محاضرات ومقالات حول الرواية بكل أجناسها الموضوعاتيّة والهويّاتيّة، لتشكّل بدورها مشروعاً نقدياً متكاملاً خاصاً بالكاتب حول الرواية عموماً والعربيّة خصوصاً. واللافت أنّ الرياحي جنح نحو الشقّ التطبيقي من النّقد على غرار ما فعلته خالدة سعيد في كتابها "حركيّة الإبداع " (دار الفكر، 1982)، وحميد لحمداني في كتابه "بنية النّص السردي" (المركز الثقافي العربي، 2015) من دون أن يتجاوز مطبّات الذاتيّة في الكثير من المقالات، ليخرج الكتاب بإشكاليّات تتفرّع من عنوان النّص: ما هي الأدوات المنقذة للرواية؟ وإلى أيّ حدّ يجب أن نتجاوز التنظير النقدي نحو التطبيق؟
النقد الروائي التطبيقي ولغته المباشرة
بدأ مؤلّف رواية "الغوريلا" (دار السّاقي، 2011) بنبرة تراجيديّة حادّة تجاه الرواية وواقعها مخصّصاً مطلع المسار البحثي لمهاجمة دور النّشر التي تحتضن مدوّنات روائيّة لا تستحق الظهور، وهو ما يضع المتلقّي أمام مسارين: إمّا العودة إلى مفهوم النّقد عند النّقاد العبّاسيين القائم على التمييز بين "الغثّ والثمين" أو الخروج اللاواعي من الخطاب النّقدي نحو الخطاب الانطباعي، يسجّل للرياحي التوظيف المعرفي الدقيق لنظريّات النقّاد، أبرزها نظريّة الأسلبة التي نظّر إليها الناقد الروسي ميخائيل باختين (1895-1975 م) مباشرةً.
هذا بالإضافة إلى التجديد من ناحية الاستشهاد النقدي عبر ذكر رؤية النّقاد والشعراء على شكل قصص قصيرة، مثل: نظرة الروائي الفرنسي إميل زولا (1830-1902 م) لسلوكيّات نظيره الفرنسي غوستاف فلوبير (1820 -1881 م)، وتواتر عبارة الشاعر الفلسطيني محمود درويش (1941-2008 م) "ارحمونا من هذا الحبّ القاسي" (ص 244)، في محاولة لخلق فسحة تلقّ إيجابيّة تعوّض عن أمور عدّة منها: التطرّق إلى الرواية الشمال أفريقيّة، الإسهاب من ناحية التقديم لمحاولة الإحاطة بالمدوّنة ومضمونها.
اتّسم توظيف كمال الرياحي للمصطلحات النّقديّة المنقولة والمعرّبة، مثل الشخصيّة المفهاميّة، السّرد المفرد، الأسلبة بتعريفات مبسّطة توسّل خلالها فتح المجال كي يشارك المتلقّي في صناعة الدلالة والدلالة المغايرة للنّصوص، فضلاً عن التبويب الموضوعاتي الذي يحتاجه المتلقّي ليعيد ترتيب أفكاره، سواء على صعيد الرواية الفلسطينيّة في ظلّ الحرب القائمة منذ عام تقريباً أو الرواية وواقعها منذ القرن التاسع عشر حتّى الآن.
لكنّ الكاتب وقع – سواء سهواً أم عمداً - في شرك الذاتيّة في جوانب عدة: أوّلاً حين تطرّق إلى رواية "خليل" للروائي الفرنكوفوني الجزائري ياسمينة خضرا (1955) ورفض الاستمراريّة في ثيمة الإرهاب والتصويب على منهجيّة الكتابة لدى خضرا التي تفتقد التحرير، وهو ما يخرج عن روحيّة النقد القائمة على التحليل، والتي راعاها الرياحي في مجمل كتابه، بالإضافة إلى تأييد حركة الروائي الجزائري رشيد بو جدرا (1941) الروائيّة مباشرةً.
استشهد الرياحي بنماذج روائيّة من تأليفه وبآراء مستخدماً ضمير المتكلّم "أنا" ليبقى السؤال الإشكاليّ معلقاً: هل هو شكل بحثي جديد؟ أم رغبة في إقحام الانطباعيّة خلال ممارسة النّقد؟ وهل كانت الغاية عرضاً فكرياً وطرح موقف وتجميع أجزائه؟
الرؤية والموقف وموضعهما النقدي
سلسة من المواقف طرحها كمال الرياحي خلال تبنّيه المنهجيّة النقديّة التطبيقيّة، اللافت منها والأكثر إشكاليّة (بتصرّف): الرواية تقول ما لا يعبّر عن حاجات المتلقّي الموجودة في مكان آخر، يقصد الرياحي أنّ القضايا والموضوعات الاجتماعيّة والسياسيّة والفكريّة الكبرى ما عادت تصب في صلب اهتمام المتلقي، ولو سلّمنا جدلاً أنّ الشعوب العربيّة تحديداً تنزح نحو بقعها الشخصيّة، نسأل الكاتب: لماذا الروايات الواقعيّة والأيديولوجيّة ما زالت تقف منافساً قوياً أمام رواية تثبت نفسها تحت اسم "رواية ما بعد الحداثة"؟
نجح الرياحي في تسليط الضوء على الرواية بشكلها الكلاسيكي المعروف والرواية الحديثة (رواية ما بعد الحداثة)، معطياً نفسه المجال لتمرير موقف أيديولوجيّ من الترجمة من العبريّة وإليها، فضلاً عن مناقشة الرواية الفلسطينيّة وتاريخها بصورة بانوراميّة أخرجتها من "الأسطرة" والتقديس عبر الاعتراف بأنّها قابلة للنقاش ما دامت القضيّة الفلسطينية ما زالت محطّ اهتمام إنساني وسياسيّ.
التطرّق إلى كتابات الغربة، لا سيّما في كندا، عكس صراع الكاتب مع الاغتراب النفسي والجغرافي من جهة، وأعطى إشارة إلى ما يحاول الروائي طوال العمر البحث عنه من حريّة وأمان ليجترح نصاً ومجتمعاً داخل النص في آن.
يأتي نتاج كمال الرياحي بشقّه التطبيقي والرؤيوي ليعيد التفكير النقدي في الرواية وحالها إلى الواجهة، تاركاً سؤالاً مشتركاً لكل المقاربات النقديّة: هل الرواية تحتاج إلى العناية بالقارئ أم العكس؟