يحتل التنجيم أو الأسطرولوجيا - وفقاً للاصطلاح الغربي - مكانةً أثيرة في المخيال الشعبي - شرقاً وغرباً - رغم اعتباره نوعاً من "العلوم الزائفة" التي لا تستتند إلى أساس علمي.
"العرافة، والرمل، والخط" تعتبر في ما تدعيه من استحضار وتخمين لما سيحدث في المستقبل ورؤية ما وراء أفق الحاضر واليومي من أقدم المهن التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ.
يتداخل "التنجيم" في الموروث الثقافي والأدبي للشعوب، نجد ذلك جلياً في "أسطورة باريس" الشهيرة حين تنبأت العرافات للملك بريام بأنه سيولد له ولدٌ يكون سبباً في فناء مملكته طروادة، لم يكن هذا الولد سوى باريس.
على مستوى اللغة نفسها، كان للتنجيم دور في بعض المسميات العلمية الشهيرة كـ"الإنفلونزا"، وهي اشتقاق من كلمة " influential" اللاتينية التي تعني التأثير لأن الأطباء كانوا يعتقدون أن الأوبئة والأمراض تكون ناجمةً عن تأثيرات سلبية صادرة عن الكواكب والنجوم.
وتأتي كلمة "disastro" الإيطالية، بمعنى كارثة، والمشتقة أيضاً من اللاتينية بمعنى "النحس" أو "المنحوس" المرتبط بعالم التنجيم الغامض.
في الأدب، استخدم الكثير من الكتّاب مثل جيفري تشوسر ووليم شكسبير الرموز الفلكية لإضافة عناصر الذكاء والفطنة والدقة في حبكاتهم السردية من أجل وصف دوافع شخصياتهم.
ومن أشهر العرافات في الأدب العربي كانت بطلة قصيدة "قارئة الفنجان" للشاعر السوري نزار قباني، والتي غناها عبد الحليم حافظ، فترى العرافة مصير العاشق الشقي الذي كُتب عليه أن يتعذب من الحب. وتكرر الصورة ذاتها في قصيدة "مدرسة الحب" حيث يطارد الشاعر حبيبته ويصل به البحث يأساً أن "يطرق باب العرافات".
نوستراداموس
هوس جمعي
تتخذ مهنة التنجيم اليوم طابعاً حداثياً، باتت تحتل زواية يومية في صباحات البرامج التلفزيونية، سواء من خلال "فقرة الأبراج" عبر استضافة من تسميهم "علماء فلك"، أو استضافة عرّافون/ات يُشبعون فضول مُتابعيهم مع نهاية كل عام وبداية آخر كضيوف دائمي الحضور في سهرات رأس السنة تحولوا إلى "نجوم" ينافسون في شهرتهم أهل الفن والسياسة، أو بصفة موسمية - حسب الحاجة - فيما بات يشبه "العُرف الإعلامي".
تهدف القنوات التلفزيونية من خلال تلك البرامج إلى تحقيق أغراض ترويجية واضحة أهمها: زيادة نسب المشاهدة، تصدّر محركات البحث، وإثارة الجدل عبر منصات التواصل الاجتماعي من خلال محاكاة حبنا الأثير كبشر لاستطلاع المجهول.
وبالنسبة إلى مدمنيها "قراءة طالع الأيام"، وما تخبئه من أحداث، سواء على الساحة السياسية والاقتصادية والفنية. تستغل تلك القنوات "الهوس الجمعي" بمعرفة المستقبل الذي يغذيه اليأس والخوف من الواقع حيناً، أو متابعتها كتسلية لا تضر ولا تنفع حيناً آخر.
ينقسم الجمهور بعدها بين مصدّق ومُشكّك بما يتم تداوله. فيصدّق بعضها ويكذب جُلّها في استثمار يعده الكثيرون - رخيصاً - للطبيعة البشرية، واستثارة مشبوهة الأهداف والنيات لغريزة الفضول الإنساني لـ"قطف تفاحة المستقبل".
وينظر لهم آخرون كـ"أدوات لجهات استخباراتية" يتم تسخيرها إعلامياً في أوقات الأزمات والحروب بهدف التلاعب بالمزاج الشعبي العام، ونشر "الطاقة الإيجابية"، وبيع الأوهام السعيدة بغدٍ أفضل و"بكرا أحلى".
تقابل هذه البرامج بعبارة "كذب المنجمون ولو صدقوا"، وهي عبارة ببغائية كثيراً ما تتردد على الألسن، وتتناقلها الشفاه عندما يأتي الحديث عن عالم التنجيم و"السحر الأسود الإعلامي" المرتبط بعالم التوقعات اليوم. لكنّ الغالبية العظمى - منهم - يتسمّر أمام الشاشات لمتابعة هؤلاء في ما يتم تفسيره علمياً بأنه آلية من آليات التكيف عند البشر، وتشير الأبحاث إلى أن التنجيم يساعد الناس على فهم الأشياء خلال الأوقات التي تبدو فيها الحياة معقدة. يصبح التنجيم أداة يمكن اللجوء إليها للراحة.
تُظهِر الدراسات العلمية أن الناس - تاريخياً - كانوا أكثر اهتماماً بعلم التنجيم خلال الأوقات المضطربة، مع ارتفاع الاهتمام خلال فترة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين، وكذلك في ألمانيا بين الحربين العالميتين. وفي الآونة الأخيرة، ازدهر علم التنجيم في أعقاب جائحة فيروس كورونا.
جدل إعلامي!
يظهر هؤلاء العرّافون/ات الذين خرج معظمهم من عباءة عالم الأبراج وتوقعاته، بملابس رسمية متكلفة، ووجوه متأملة تتوّجها هالة "الحكمة المصطنعة"، يبرمجون أصواتهم كصدى يخرج من برزج المجهول المظلم حاملين "شعلة الأمل" ويتحدثون بثقة يُحسدون عليها. أو يظهرون بملابس غريبة، وقصّات شعر مبتكرة في استحضار لعرابي عالم التنجيم القديم قدم الوجود الإنساني على الأرض، ليرسموا "نقش الطاس الحلزوني" بهدف حبس شياطين الغضب والتمرد الشعبي، واستدعاء "الجن الأزرق" لضبط النظام العام.
لا يُقدم "أحفاد نوسترداموس الجُدد"، تبياناً منطقياً لـ"كُنه" ما يدّعون "معرفته"، بقدر ما يرزعون "ضرساً تالفاً" في عين الشمس، فلا رسم كف تجحظ له عيون بدوية فاتنة لـ"بخت" شقي أو سعيد، أو تصوّراً لكائنات الغيب تخطّه "خطوط البُن" في فنجان قهوة صباحي، أو حتى "علاقة حسابية لتواريخ الميلاد والأسماء" يقيس حركة المصير، بل يعزون ما يقولونه لحركة الكواكب والنجوم "وخوارق الإلهام المزيفة" التي لا تظهر "معجزاتها التنبّئية" إلا لـ"بصيرتهم النافذة".
تتصدّر "خبيرة التوقعات" اللبنانية ليلى عبد اللطيف التي لُقبت أخيراً بـ"سيدة التوقعات" "التراند" من خلال سلسلة أحداث توقعتها وحدثت فعلاً مثل انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من السباق الرئاسي أمام منافسه دونالد ترامب، ثم فوز نائبته كامالا هاريس بمنصب الرئيس، أو طلاق ياسمين عبد العزيز من زوجها الممثل أحمد العوضي. ولعلّ زيادة شهرتها جعلتها هي نفسها عرضة للشائعات بعد انتشار خبر موتها الذي ثبت عدم صحته لاحقاً.
تحولت عبد اللطيف إلى حديث الساعة عبر الحديث عنها في مقالات، حلقات تلفزيونية، فيديوهات ومقاطع انتشرت على السوشيل ميديا، وتهافت شعبي أثار جدلاً واسعاً حول سر "صدق توقعاتها" بين معتقد بأنها مجرد "دجالة"، أو متنبئة أصابت توقعاتها بمحض الحظ والصدفة، أو أنها جزء من مؤامرة "ماسونية".
مصادفات صادقة
يبدو أن "نجاح" عبد اللطيف الأخير، أشبه بالتأثير الذي يحدثه أي "توقع صائب" مثلاً لمسلسل الكرتون الأميركي "سبمسون" الشهير الذي انطلق عرضه عام 1989، وقدرته الخارقة على التنبؤ بالأحداث المستقبلية بدقة غريبة.
فمن الاضطرابات السياسية إلى التقدم التكنولوجي، يبدو أن كتاب العرض المسلسل الفكاهي الجريء يمتلكون نوعاً من الكرة البلورية التي تسمح لنا برؤية ما سيحدث. على سبيل المثل تنبؤات العرض برئاسة دونالد ترامب، وهو الاكتشاف الذي أحدث صدمة في المشهد السياسي الأميركي. ففي حلقة من عام 2000 بعنوان "بارت إلى المستقبل"، صور العرض عالماً يتصور فيه بارت سيمبسون نفسه كشخص بالغ. وفي هذا المستقبل البائس، أصبحت ليزا سيمبسون رئيسة للولايات المتحدة، ومكلفة بتنظيف الفوضى التي خلفها ترامب.
ولكن "التنبؤات الثاقبة" التي قدمها مسلسل "عائلة سمبسون" تمتد إلى ما هو أبعد من عالم السياسة. ففي حلقة عام 1994 بعنوان "زفاف ليزا"، قدم المسلسل لمحة عن مستقبل التكنولوجيا من خلال تصويره لجهاز "ليزا"، وهو جهاز محمول يشبه إلى حد كبير الهواتف الذكية الحديثة. يرى بعضهم أن هذا مجرد مصادفة، فيما يتكهن آخرون بأن مؤلفي المسلسل يتمتعون بحدس خارق يسمح لهم بالاستفادة من روح العصر. وأياً كان التفسير، فلا أحد يستطيع أن ينكر التأثير الذي خلفه "عائلة سيمبسون" على الثقافة الشعبية، والسحر الذي لا يزال يلهمه.