النهار

حفلات الهولوغرام... نوستالجيا أم إفلاس فني؟
شريف الشافعي
المصدر: القاهرة- النهار العربي
قد تتيح حفلات الهولوغرام استعادة كبار المطربين والمطربات آليّاً، من خلال تقنيات متفوّقة في المسارح الحديثة المجهّزة. ولكن رغم الرواج الذي تحققه هذه الحفلات في الآونة الأخيرة، فإنها تُثير جدلاً محتدماً وإشكاليات متشابكة على أكثر من مستوى.
حفلات الهولوغرام... نوستالجيا أم إفلاس فني؟
أم كلثوم من حفلة هولوغرام
A+   A-
 
قد تتيح حفلات الهولوغرام استعادة كبار المطربين والمطربات آليّاً، من خلال تقنيات متفوّقة في المسارح الحديثة المجهّزة. ولكن رغم الرواج الذي تحققه هذه الحفلات في الآونة الأخيرة، فإنها تُثير جدلاً محتدماً وإشكاليات متشابكة على أكثر من مستوى.
هذه الإشكاليات، في حفلات أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وغيرهما، انتشرت بشكل موسّع في مصر والمغرب ولبنان والأردن والإمارات والسعودية ومعظم الدول العربية، وهي غالباً مرتبطة بحقوق الملكية والانتفاع والتربّح المادي وما إلى ذلك. وهنا، ينحصر النزاع بين منظّمي الحفل، وورثة المطربين، في إطار قانوني.
 
أما الإشكاليات الأوسع نطاقاً، التي تتقصّاها هذه السطور في المقام الأول، فهي المتعلقة بتقييم الظاهرة نفسها فنيّاً وجماليّاً، ومحاولة تحليلها والوقوف على أسبابها ونتائجها. 
 
هنا، يتعدّى الأمر الأخذ بمقياس الإقبال الجماهيري على حفلات لمطربين راحلين ينتمون إلى لحظة هاربة.
وعلى ما يبدو، إجمالاً، فإن هذه الحالة الافتراضية، المُبهجة والمُربحة، التي تغازل النوستالجيا لدى عشّاق الزمن الجميل من كبار السنّ، وتجتذب الشباب ممن حُرموا من معاصرة عمالقة الطرب، هي حالة تحمل في طيّاتها أيضاً حقيقة سلبية، لا يمكن نكرانها.
هذه الحقيقة، هي أن المشهد الفني الراهن يعاني فراغاً نسبيّاً، ويفتقر إلى نتاجات غنائية وموسيقية جديدة، رفيعة ومؤثرة ومُشبعة، بحجم هذه الأعمال الطربية القديمة التراثية، التي لا تزال حيّة إلى يومنا هذا، ومحفورة في الوجدان الشعبي المصري، ومستساغة لدى الذائقة العربية الجماعية.
 
 
 
الأبعاد الثلاثية
لم يعد غريباً أن يطالع عشّاق الموسيقى والغناء إعلانات إلكترونية وبوسترات ورقية، للتنويه بأن أحد المسارح الحكومية أو الأهلية أو الخاصة يستضيف "قريباً" سيدة الغناء العربي أم كلثوم، أو العندليب الأسمر عبد الحليم حافظ، في حفل جماهيري جديد!
السرّ في تقنية الهولوغرام بالتأكيد التي نشأت كفكرة في ستينات القرن الماضي، وبلغت أخيراً درجة كبيرة من التطور، وصارت أمراً مألوفاً متكرّراً في مسارح كثيرة، منها دار الأوبرا وقصر عابدين وساقية الصاوي والمتحف القومي للحضارة وغيرها في مصر، إضافة إلى مسارح المهرجانات الكبرى على امتداد دول العالم العربي.
تعني تقنية الهولوغرام التصوير المجسّم للأشخاص بواسطة أشعة الليزر، حيث يمكن استحضار هيئة أي إنسان بحجمه الطبيعي في نموذج هلامي متحرك ثلاثي الأبعاد، فيبدو كأنه شخص حقيقي على المسرح المعدّ وفق آليات معيّنة، والمزوّد بمجموعة من العدسات والمرايا ومقسّمات الأشعّة. 
تشتمل تجهيزات المسرح على معالجات خاصة للإضاءة وللصوتيات والتوزيعات الموسيقية، بما يوحي بأن الحفل مقام بالفعل، كما قد يجري استحضار مستنسخات بصرية أيضاً لأعضاء الفرقة الموسيقية وأعضاء الكورال بالكامل، الذين يمكن مشاهدتهم من الاتجاهات كافة، كأنهم أجسام بشرية.
 
 
 
 
نزاعات قانونية
على مستوى الحضور الجماهيري، والتربّح المادي، يمكن القول إن حفلات الهولوغرام في مصر والعالم العربي، لكبار نجوم الطرب، وعلى رأسهم أم كلثوم وعبد الحليم حافظ، هي حفلات ناجحة، بوصفها دائماً "كاملة العدد".
لهذا، فإن هذه الحفلات تزداد يوماً بعد يوم، ومن أحدثها على سبيل المثل، حفلة أم كلثوم في مهرجان موازين في المغرب خلال الصيف الجاري، وحفلة عبد الحليم حافظ في مول العرب في القاهرة قبل أيام قليلة، ومجموعة الحفلات المزمع تنظيمها خلال الأسابيع المقبلة لسيدة الغناء العربي في مراكش والرباط والدار البيضاء، وغيرها.
وكلما زاد الإقبال الجماهيري، والتربّح المادي، كلما أثارت هذه الحفلات مزيداً من النزاعات القانونية بين الجهات المنظّمة، وورثة المطربين والمطربات، حيث تقام بعض حفلات الهولوغرام من دون مراعاة حقوق الملكية الفكرية في مجال المصنّفات الفنية. 
وآخر تلك المشكلات في هذا الصدد، مطالبة ورثة أم كلثوم والشركة المالكة لحقوق أعمالها، إدارة مهرجان موازين بالحقوق المادية المترتبة على "استغلال" اسم المطربة المرموقة في المغرب.  
 
كما تكرّرت الدعاوى القضائية التي يرفعها ورثة العندليب الأسمر على منظّمي حفلات عبد الحليم حافظ بتقنية الهولوغرام في مصر وخارجها، واصفين هذه الحفلات غير المقننة بأنها انتهاك فادح لحقوق الملكية الفكرية، في ظل عدم الحصول على تصريح منهم باستغلال اسم المطرب وصورته وأغنياته.
 
 
 
أصالة أم خواء؟ 
ولعلّ في بيانات الورثة الشرعيين لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ ما يحيل إلى الجانب الآخر من إشكاليات حفلات الهولوغرام الجدلية، حيث تشير هذه البيانات إلى طرف الخيط المتعلق بتقييم الظاهرة فنيّاً وجماليّاً، بعيداً من معدّلات الربح ونسب الحضور الجماهيري.
 
يلفت ورثة أم كلثوم وحليم إلى أن حفلات الهولوغرام، وتقنيات الذكاء الاصطناعي المستحدثة، هي في مجملها "تخريبية" وليست "تجريبية"، إذ يترتب عليها "تشويه الإبداع الأصيل، الناصع النابض"، الأمر الذي يجعلها "إساءة عظمى إلى عمالقة المطربين وتراثهم الرصين".
 
ومع ذلك، معظم مسؤولي الثقافة الرسميين ومنظّمي حفلات الهولوغرام في مصر، ومنهم المتحدث باسم دار الأوبرا المصرية، يجدون في هذه الحفلات التصوّرية انتصاراً للقيمة، وإثراء للحياة الفنية، وبوابة لتعزيز الأصالة، ومساراً للتعبير عن القوة الناعمة وإبراز الهوية المصرية.
 
مثل هذه التصريحات تحتاج الى التفنيد، فحفلات الهولوغرام، التجارية المحضّة، هي إنتاج وهمي يعتمد على اجترار منتج فني قديم من دون إضافة، حتى لو اشتملت الحفلات على بعض التوزيعات الموسيقية والتنويعات الإيقاعية الجديدة.
وتلعب هذه الحفلات على استغلال حالة التعطش السائدة، الناجمة عن خواء المشهد من القيمة الحقيقية في الموسيقى والغناء، حيث تجد الفئات الأكبر سنّاً ضالّتها في استرداد ذاكرتها المعلّقة بزمن الفن الجميل في الماضي غير البعيد، بينما ينجذب الشباب إلى الأعمال الجادّة العميقة التي يفتقدونها في حاضرهم المفلس.
وتضاف إلى ذلك، نكهة الحداثة والطرافة التي تسم تقنية الهولوغرام، وهي نكهة تروق الشباب والكبار على السواء، حيث تعتمد هذه الحفلات على الإبهار والإدهاش، على مستوى التجهيزات والمؤثرات المسرحية.
وبالنسبة للمشهد المصري على وجه الخصوص، فإن النزعة الماضوية تفسّر كثيراً من الظواهر الفنية والثقافية، مثل حفلات الهولوغرام وغيرها، التي يجري تصديرها كمنجزات، بينما هي محاولات لتعويض التراجع في الواقع الحالي.  
ومن ذلك، على سبيل المثل، الادّعاء باستعادة تجربة الستينات في الثقافة والفنون، واستنساخ وزارة ثروت عكاشة القديمة بمفاهيمها القائمة على الإبداع الموجّه والإصلاح المجتمعي، ورفع شعارات حماسية بشأن استعادة الدور المصري الريادي من قبيل "عودة ماسبيرو" و"طلعت حرب راجع"، وغيرها من أبجديات الارتداد إلى الوراء، وإزاحة الحاضر البليد بيد الماضي المجيد.
 

اقرأ في النهار Premium