لجميع الحروب سردياتها، أقواها التي نُسجت عن الحربين العظميين، وقبلها طبعاً أعمال أدبية كبرى أشهرها "الحرب والسلم" (1869) لتولستوي.
وفي القرن العشرين أكتفي برواية واحدة للكاتب فرديناند سلين (1894ـ 1961) "حرب" نُشرت بعد رحيله بسنوات (2022) و"وداعًا للسلاح" (1929) لهمنغوي (1899ـ1961)، ولدينا كعرب مدونة عربية كبيرة في هذا المضمار، أقواها ما كتبه المصريون بعد هزيمة 1967، واللبنانيون بُعَيد الحرب الأهلية (1975ـ 1990)، فيمكن القول إن الرواية اللبنانية في مجملها رواية حرب، من أبرز كتّابها إلياس خوري وهدى بركات ورشيد الضعيف، كل برؤيته وطريقته.
بطبيعة الحال، تحضر الرواية الجزائرية شاهدًا قويًّا في هذا الميدان، نظرًا لحرب التحرير التي خاضتها جبهة التحرير الوطني (من 1954 إلى الاستقلال 1962)، نراها عند كاتب ياسين (1929ـ1989) في روايته الأشهر "نجمة" (1956) والطّاهر وطار (1936ـ2010) في شهيرته "اللاز" (1947). ثم رعيل كبير في هذا الدرب أبرزه مرزاق بقطاش (1945ـ2021). وما زالت الرواية الجزائرية تستمد حكاياتها وشخصياتها من هذا التاريخ وبنسغه تصنع حبكاتها.
واقعي وتخييلي
لم تكن الجزائر تتوقع بعدما وضعت الحرب أوزارها، أن تتلوها أخرى، داخلية، تواجه الأخ بأخيه، سُمّيت "العشرية السوداء" لامتدادها عشر سنوات تقريباً من العام 1991 إلى العام 2002، سالت فيها دماء مائتي ألف قتيل، بين عسكر رسمي ومواطنين أبرياء ومقاتلين ومتمردين، فتحولت البلاد الى حمام دم.
هذه الحرب اللعينة عاد اليها الكاتب الصحفي الجزائري كمال داود، ليصنع في أتونها رواية قوية بمعمارها وقصتها وشخصياتها ونسيجها النثري الشعري، الواقعي والتخييلي، ويشحنها بطاقة تراجيدية عبر المحكيات والمصائر الأليمة التي ذهبت فيها مسارات رواية وضعتها لجنة جائزة "غونكور" على رأس قائمة الاختيار الأول (يليهما اثنان انتهاءً بإعلان الجائزة في مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر)، وهي تمثيل جيد للرواية الفرنكفونية.
داود اليوم كاتب مرموق بالفرنسية، وما زالت أفضل الروايات الجزائرية تصدر عن كتّاب بهذه اللغة، وتستمر في امتصاص التاريخ الوطني واستكتابه على منوال تخييلي ينهض على ركائز واقعية وبمنظور نقدي نفاذ لاذع يخترق جلده ويمسّ في الصميم إيديولوجية حكم وهيمنة ثقافة ومخيال مجتمع.
تعالوا بنا إلى "Houris" (دار غاليمار، 2024) هو جمع "حورية"، وأترجمها بـ"الحور العين" كما ورد في القرآن:" وزوّجناهم بِحُورٍ عِين" (الدخان/54).
كأنّ الكاتب أراد لعنوان روايته أن يكون كشفًا عن وديان من الدماء سالت قبل عشرين عاماً، أي زمن العشرية السوداء، الساردة هي بطلة الرواية نفسها، تعلن عن اسمها (فجر) ثمّ تنطلق بنا، لتروي قصتها من نهايتها.
بين الآني والماضي، نتعرف على مأساة فردية في قلب مجزرة جماعية تحكّمت فيها ظروف سياسية وشاركت فيها قوى ظلامية وعسكرية، راح ضحيتها عشرات الآلاف من الأبرياء. وإذ قرّرت السلطة طيّ صفحتها بمحوها من الذاكرة الجمعية بثمن شراء السلم والاستتباب في الحكم، يخرج في وجهها الروائي العاصي ليراجع فاتورة الدم.
تروي فجر، وهي تقطن في مدينة وهران، ما جرى لها ولأهلها ومحيطها في قرية في الطريق إلى بلدة غليزان (حدّ شكالة) بتاريخ 31 كانون الثاني/ يناير 1999. تمهّد له بصراعها مع الوسط الديني في حيّ تملك فيه صالون حلاقة نسوي قبالة مسجد يناصبها فيه إمامه العداء لتحرّرها في الهندام واستقبالها النساء متبرّجات للزينة.
هي إذن خلية اجتماعية مضادة عنده للشريعة وما يراه حلالاً وحراماً، وإذ تمعن في التحدّي يحرّض عليها عصابة تتلف الصالون ولا قانون يحميها، وهي في ضعفها، ضحية إرهاب عمره 20 عامًا وراءها لكنّ ندوبه، بل جراحه، غائرةٌ مفتوحةٌ، فاضحة للعيان.
وحدها تصرخ بما حدث لها في حديث صامت يسمّيه الكاتب (اللغة الداخلية) مقابل اللغة الخارجية، لأنها محرومة منه النطق منذ تلك الليلة الدموية، فحبالها الصوتية مقطوعة، وحنجرتُها مثقوبة وسطها أنبوب بلاستيكي تتنفس منه، لذلك يأتي سردها على مطية استعمال ضمير المخاطب، المرسل إليه حمْل في بطنها من ثلاثة أشهر، تفترض أنه أنثى فتسمّيه (حورية) وحوريات أخرى هي مطمع غلاة الأصوليين الذين "جاهدوا" في ذبح الآلاف باسم فهم رجعيّ للدين وشريعة بتأويلهم الأعمى.
العودة
على امتداد 400 صفحة، تخاطب فجر ابنتها المحتملة حورية، تشكو لها فجيعتها، بقيت في البيت وحيدة حين سافرت الأم خديجة إلى بروكسيل لبحث جديد عن جرّاح يعيد لها حبالها الصوتية.
ثم تقرّر هي فجأة أن تقوم بمغامرة سفر عشية عيد الأضحى، أن تذهب إلى مكان الجريمة الوحشية في قريتها قبل 21 عامًا حين نزل الإرهابيون القتلة إليها وأبادوا أهلها، ومنهم أبوها وأمها وأختها تاتوموش، ذُبحوا ذبحًا وهي بدورها حزّها سكينٌ من الوريد إلى الوريد ونجت من الموت.
نُقلت بعد حضور الجنود لتُسعَف في مستشفى في وهران، حيث اعتنت بها سيدة هي خديجة، أمّها البديل، التي كانت موجودة كمتطوعة وأمامها طفلة في سنّ الخامسة مذبوحة.
هذه الطفلة كبُرت وهي تعيش بعاهةٍ تخفيها بمنديل حول عنقها ويفضحها نُدب كبير في وجهها في شكل ابتسامة مرعبة، لا مخاطب لها سوى الحمْل الذي في بطنها تسبّب فيه شخص عابر تعرفت إليه في شاطئ وهران واختفى، حلمه عبور المتوسط إلى إسبانيا.
تخوض مغامرتها يوم عيد الأضحى حين قرّرت الذهاب إلى موضع الجريمة الشنعاء، تسوق سيارتها وتحدث لها مغامرات نوجزها في عطب سيارتها، واعتداء عليها بسرقة متاعها، وتعرّفها إلى شخص يُقلّها على متن شاحنته راوياً لها في الطريق حكايته العائلية والشخصية، ليصبح هو الحكّاء الثاني بعد فجر. ينضمّ إليهما حاكٍ ثالث هي حمرا، المرأة التي اختطفها متمردو الجبل ليلة عرسها، ومن لسانها نتعرف على شراسة هؤلاء، شغلهم الذبح بلا تمييز، ويسام معهم النساء كل الويلات.
تصل فجر أخيراً إلى قريتها وتعيش مغامرة أخرى مع إمام مسجدها الذي يفتضح سرّها وينصحها بالمغادرة والنسيان، فالناس لا يريدون تذكّر شيء، وهي مصرّة على الوصول إلى "موضع الموت" حيث ذُبحت أختها لتزورها.
ثم في زمن لاحق، نرى أنها أنجبت طفلتها وقد تراجعت عن مشروع إجهاضها كي تجنّبها العيش في بلد الحياة فيه غير لائقة. ثم إننا نعلم استردادها لصوتها، فلم تبق سجينة "اللغة الداخلية". هذا المونولوغ الداخلي، شكّل مع خطابات أخرى بوليفونية مرآوية لأوضاع اجتماعية دينية أخلاقية سلطوية، وأقواها خطابٌ نقديٌّ حادٌّ لتقاليد بالية موروثة وعقليات تهيمن عليها ثقافة رجعية، وتنديد بأشكال اضطهاد شنيع للمرأة.
في قلب هذا تنديدٌ مضمر بالنسيان الذي أريد فرضه رسميًا على جرائم العشرية السوداء عقب مصالحة الدولة مع الإرهابيين الجزّارين. نعم، تنفتح الرواية على المستقبل لكنها ترفض النسيان.
كتب كمال داود رواية طليعية خرق فيها أنساق السرد التقليدي جميعها، وسردها في ثلاثة أقسام، موزعة على فصول صغيرة، وأحيانًا فقرات مقتضبة، زمنها وجيز جدًا، في ذهاب وإياب بلا انقطاع، فتحتاج من القارئ إلى نباهة ونفَسُه يلهث خلفها بما امتلكته من تشويق وتبثّه مشاعرَ متفاعلة مع شخصية قصتها من الواقع وإنما مرعبة فوق الخيال، ولكاتبها لغةٌ تسمو به، اشتقّ منها لغات وصوّر استعارات. الأدب حين يتبنّى القضايا الكبرى يحوّلها إلى نشيد ملحمي يقطر هنا بالدماء.