غيّب الموت صباح اليوم، الأحد، في العاصمة بيروت، الروائي اللبناني الياس خوري عن عمر ناهز الـ76، إثر معاناته من آلام مزمنة في الأمعاء استدعت مكوثه في المستشفى حتى لحظة رحيله وفقاً لمقربين منه.
يتزامن غياب خوري الذي ارتبط أدبه بفلسطين ولطالما اعتبر "أحد أبنائها المخلصين"، مع الأحداث القاسية التي تحدث في غزة اليوم.
وما إن أعلن خبر رحيله حتى عبّر كثيرون من أصدقاء الراحل ومحبيه عن حزنهم على منصات التواصل الاجتماعي، فدوّن المخرج المصري يسري نصر الله الذي أخرج فلم "باب الشمس" المقتبس عن رواية خوري الشهيرة مودعاً: "اشتغلنا سوا، وناقشنا وعملنا فيلم سوا، ودايما كنت أعرف رأيه في عملي، وهو يخفف رأيي في عمله. جمع بيننا حبنا للحياة وللحق وللجمال ولفلسطين. مع السلامة يا حبيبي يا الياس".
يصفُ الكاتب والمُترجم السوري ثائر ديب رحيل خوري في صفحته الشخصية عبر "فايسبوك" بأنه "خسارةٌ فادحة"، قائلاً:" لطالما كان الياس خوري، بالنسبة إلي، هو المثقف بأل التعريف: الروائي والناقد والسوسيولوجي والإنتلجنسي النقدي مع اليسار وفلسطين والمجدِّد في كل ذلك".
نشر الكاتب الجزائري بشير مفتي ناعياً الراحل "اللبناني - الفلسطيني" عبر "فايسبوك" متناولاً الأسى الذي يجمع بين ما نشهده يومياً من الإبادة الجماعية القائمة في غزة ورحيل خوري: "رحل أخيراً صاحب "الوجوه البيضاء" و"كأنها نائمة" و"باب الشمس" و"رحلة غاندي الصغير" .. في لحظة تاريخية مفتوحة على الأمل والحزن وهو الذي كان يتابع بألم وحسرة ما يحدث في غزة".
"أحفاد يونس"
كان خوري أحد حراس "باب الشمس"، وقد وصفته "وكالة الأنباء الفرنسية" يوماً بأنه أحد أبرز الأدباء العرب المناصرين للقضية الفلسطينية، ففي مايو/أيار 2013 توجّه الراحل بكلمةٍ من بيروت عبر منصة "سكايب" أمام مجموعة من 250 ناشطاً فلسطينياً ممن أسسوا مخيماً في المنطقة "E1" الواقعة بين القدس وأريحا أطلقوا على مخيمهم حينها اسم "باب الشمس"، تيمناً باسم روايته الشهيرة التي تعتبر رواية "الذاكرة الفلسطينية التي تخرج من رحم مخيم شاتيلا"، قائلاً لهم: "لن أقول: أتمنى لو كنت معكم، فأنا معكم... هذه هي فلسطين التي تصورها يونس في رواية باب الشمس".
كان الهدم مصير المخيم الذي أعاد الناشطون بعثه مجدداً بـاسم "أحفاد يونس" ليُهدم مرة أخرى على يد قوات الاحتلال ويخرج خوري مُعبراً عن تمسكه ككاتب بسردية النضال والحق الأبدي الفلسطيني التي دافع عنها طويلاً في كتاباته، وعلاقة التكافل الدائمة بين حرية القلم والبندقية، مؤكداً أن "القرية قد تمحى، ولكن الأدب لا يمكن محوه". وهذا إن دلّ فإلى تأثير أدبه في الواقع عكس ما يحدث دائماً.
مسار نضالي
لم يكن التزام خوري المولود سنة 1948 لأسرة مسيحية متوسطة في منطقة الأشرفية ببيروت مع قضية الفلسطينية التزاماً أدبياً فقط - على أهميته - بل بدأ حياته السياسية في عمر الـ19 حين زار مخيم اللاجئين الفلسطينيين، وانتسب لجبهة التحرير الفلسطينية أثناء أقامته في الأردن عام 1967، ولم يغادرها إلا في أعقاب أحداث "أيلول الأسود".
عاد مجدداً إلى بيروت ليُتم دراسته الجامعية في قسم التاريخ بالجامعة اللبنانية، ثم حصل على إجازة الدكتوراه بالتاريخ الاجتماعي من جامعة باريس. وفي مطلع السبعينات بدأ مسيرته الفعلية في الصحافة والكتابة وصدرت له الكثير من الأعمال الروائية التي تُرجمت إلى لغات عدة، إضافة إلى إنجازه العديد من السيناريوهات، المسرحيات، والكتب الأدبية النقدية.
ارتبط أدب خوري بقضايا الإنسان العربي المعاصر، لا سيما الفلسطيني الذي انتسب إليه وجدانياً وفكرياً وأدبياً، من وجهة نظر تحررية يسارية - لم يكن قبيل الصُدفة أنه ولد أعسرَ - فكانت قضايا التشرد والتهجير الدائم بحثاً عن الحب والوطن بمثابة هاجسه الروائي الذي تحركه الأحداث اليومية ويتجاور مع نزعته الحالمة بالتحرر من كل "قوة احتلال".
يظهر ذلك جلياً منذ روايته الأولى "عن علاقات الدائرة" الصادرة سنة 1975، والتي تتركز في قضية "تقرير المصير" على المستويين الفردي والجمعي، ثم "الجبل الصغير" سنة 1977 الذي ظهر كسيناريو سينمائي يرصد واقع الحرب اللبنانية وانعكاساتها الدامية على لبنان.
ومع هذا، تظلّ روايته "باب الشمس" الصادرة عن دار الآداب سنة 1998، من أشهر أعماله، وهي اختيرت من بين أفضل 100 رواية عربية تجسد واقع النكبة الفلسطينية المستمرة منذ عام 1948 عبر محاكاة تستمد قصتها من وقائع عاينها خوري خلال تجواله في المخيمات الفلسطينية، مع استعادة لسردية اللجوء الفلسطيني في لبنان.
فيها نشهد صورة الفجيعة والموت والتهجير القسري يختزلها خوري في قصة حب تجمع بين يونس الأسدي وزوجته نهيلة، التي يتذكرها عشّاق الرواية عبر جملة قالها خوري على لسانها "لن يكون هناك وطن حتى نموت جميعاً".
وبعد سنوات، أصدر خوري عن الآداب أيضاً ثلاثية "أولاد الغيتو" التي بدأها بجزء "اسمي آدم" كتكملة لأجواء باب الشمس. يتخذ السرد فيها من عمق المأساة الفلسطينية مادة أساسية ينسج منها حكاية "آدم دنون" (بطل الرواية المهاجر إلى نيويورك)، الإنسان المحاصر بالأسلاك الشائكة داخل "الغيتو الفلسطيني".
وفي الجزء الأول منها أيضاً يستعرض خوري أبشع صور ممارسات الاحتلال الصهيوني عبر سيرة شخصية للبطل، مستعيداً طفولته في مدينة اللدّ في فلسطين المحتلة التي تحولت إلى ما يشبه "المعسكر النازي" بعد تسييجها بالأسلاك، وقد طُرد سكانها الأصليون وبقي فيها مع والدته.
الياس خوري يرحل اليوم عن 76 عاماً لكنّ أدبه باقٍ في ذاكرة القرّاء وعشاق القضايا الإنسانية العادلة.