النهار

الياس خوري... حارس الذاكرة الفلسطينية وتاريخها
مايا الحاج
المصدر: بيروت- النهار العربي
كتب الياس خوري الكثير من الأعمال الروائية والمسرحية والمقالات النقدية. لكنّه حين سُئل عن الجملة الأكثر تأثيراً في نفسه، ذكر مقولة للكاتب الفرنسي جان جنيه مفادها أنّ الفن لا يخاطب الأحياء بل الموتى ايضاً. وإذا دقّقنا في هذه العبارة، نجدها جواباً على سؤالٍ يبدو أنّه شغله. ماذا بعد الموت؟ وكأنّ جنيه- بجوابه ذاك- قد ربت على كتفه ليريحه، مؤكدا أنّ الإبداع له جدوى. وأنّ الفنّ لا ينتهي بانتهاء صاحبه. وأنّ الأدب هو المكان الوحيد الذي يتحاور فيه الأموات مع الأحياء. الياس خوري كان يؤمن أنّ الكاتب حين يصبح أهمّ من نصّه فهذا يعني أنّ نصّه فاشل. وهو رغم شهرته الكبيرة، ظلّ فعلياً خلف أعماله لا قبلها. رواياته عرفت نجومية أكير من نجوميته هو نفسه. وظلّ اسمه مقروناً بأسماء أبطاله وأعماله التي حفرت مكاناً جوهرياً في عالم الرواية العربية.
الياس خوري... حارس الذاكرة الفلسطينية وتاريخها
الياس خوري
A+   A-
 
 
كتب الياس خوري الكثير من الأعمال الروائية والمسرحية والمقالات النقدية. لكنّه حين سُئل عن الجملة الأكثر تأثيراً في نفسه، ذكر مقولة للكاتب الفرنسي جان جنيه مفادها أنّ الفن لا يخاطب الأحياء بل الموتى ايضاً. 
وإذا دقّقنا في هذه العبارة، نجدها جواباً على سؤالٍ حيّره. ماذا بعد الموت؟ وكأنّ جنيه- بجوابه ذاك- قد ربت على كتفه ليريحه، مؤكدا أنّ الإبداع له جدوى. وأنّ الفنّ لا ينتهي بانتهاء صاحبه. وأنّ الأدب هو المكان الوحيد الذي يتحاور فيه الأموات مع الأحياء.
آمن الياس خوري أنّ الكاتب حين يصبح أهمّ من نصّه، هذا يعني أنّ نصّه فاشل. وهو رغم شهرته الكبيرة، ظلّ فعلياً خلف أعماله لا قبلها. رواياته عرفت نجومية أكبر من نجوميته هو. وظلّ اسمه مقروناً بأسماء أبطاله وأعماله التي حفرت مكاناً جوهرياً في عالم الرواية العربية. 
اذا، الياس خوري، الذي توفيّ اليوم عن 76 عاماً، لا بدّ أنه رحل مطمئناً. هو الذي قضى حياته كاتباً، مدركاً أنّ الكتابة وحدها هي فعل نضال ومقاومة وإبداع وجمال. 
ولد الياس خوري في العام 1948. ولهذا التاريخ دلالة مهمّة في حياة الكاتب. ولادةٌ أشبه بالخروج من رحمٍ نازفٍ جريح. من ذاكرةٍ مُغتصَبةٍ مُتعبة. ولادةٌ أدرك فيها الموت قبل الحياة، الهزيمة قبل النجاح، والانكسار قبل الانتصار. 
هو ابن النكبة،. وإن لم يكن فلسطينياً. ولهذا كتب عن خسارة "الأرض" كما لو أنها خسارته الشخصية. وكان حاضرا في ميادين النضال المختلقة: فكريا وثقافيا وسياسيا وايديولوجيا.
صدى هذه الأفكار قد تتردد في روايات خوري نفسه، ومن بينها "أولاد الغيتو" حين يقول خوري على لسان بطله آدم بما معناه: "الثائر هو إنسان يائس واليأس هو أنبل المشاعر لأنه يحررنا من الأوهام ويجعل من حركتنا الثورية عملا يشبه الفنّ". 
 
 
 
 
من جيل الثورات
اذا كان خوري ينتمي بمولده الى جيل الاربعينات أو ما يسمى بجيل النكبة، فإنّ انتماءه الأدبي يعود الى جيل الستينات والسبعينات. تلك هي مرحلة الثورات الكبرى كالثورة الفيتنامية وثورة تشي غيفارا وانتقاضة الطلبة والعمال في فرنسا وكذلك الثورة الفلسطينية.
هذه الحياة وسط موجاتٍ من الحروب والثورات والهزائم شكّلت وعيه السياسي المبكر. وهذا حتما ما منح كتابته بعداً ثورياً نضالياً تغييرياً.
ومع ذلك لم يزعم خوري مرة أنّ أدبه- أو الأدب عامة- يملك قوة تغيير العالم، وإن كان قادراً دوما على المفاجأة. وفي هذا السياق، ذكر أكثر من مرة  أنّه عاش دهشةً هائلة يوم تحوّلت روايته الى واقع، في حركةٍ معاكسة لما هو مُعتاد، باعتبار أنّ الواقع هو من يتحوّل عادة الى أدب.
ففي عام 2013، قام نحو 250 شاب وفتاة في فلسطين ببناء قرية مدمرة أطلقوا عليها "باب الشمس"، على اسم القرية في روايته الأشهر، وحين أعيد تدميرها من الاسرايليين، عمد الشباب الى اعادة بنائها وإعطائها اسم "أحفاد يونس"، على اسم يونس، بطل "باب السمش". وتلك كانت حصّته من إنصاف القدر له ولكتابته.
 
الياس خوري كان منفتحاً على الأدب العالميّ، كثير الأسفار، ومتعدد اللغات. لكنّه أحبّ التراث العربي وميّزه، فاستلهم منه حكاياتٍ وشخصيات.
مثلا، في روايته "أبنا الغيتو- اسمي آدم"، اختار قصة الشاعر الأمويّ القديم وضّاح اليمن، فأقحمها في أحداث العمل جاعلا من تراجيديا الشاعر القديم محاكاة رمزية لتراجيديا معاصرة عنوانها "فلسطين". 
ومن الكتّاب القدماء الذين أثروا في الياس خوري هو ابو حيان التوحيدي، وصرّح مرّة أن من بين أعماله المفضلة كتاب "الامتاع والمؤانسة" لأنّ الكتابة عنده هي حالة من إمتاع النفس ومؤانسة الآخرين، قبل أي شيء آخر. ومهما بلغت قسوة ما تكتب عنه، يظلّ التعبير عنه أدبياً ممتعاً ومؤنساً. 
 
الموضوعات التي تناولها خوري تحمل بمجملها قسوةً وبؤساً، إن عبر تأريخه لحكاية النكبة ومشاهدها المفجعة، أو عبر الكتابة عن الحرب اللبنانية الأهلية وأهوالها المرعبة.رغم ذلك لم تخسر أعماله شيئا من إمتاعها وجماليتها.
 
 
 
 
الحرب... والقضية
اسم الياس خوري مرتبط بفلسطين بالدرجة الأولى، الى حدّ أن كثيرين ظنّوه فلسطينياً. لكنه في الواقع، كتب عن بيروت بمقدار ما كتب عن القدس. ابن الأشرفية كتب عن مدينته في رواية "الجبل الصغير"، وتناول حرب لبنان الصعبة في اكثر من عمل. وظلّ إحساسه العميق بلبنانيته موازياً لاحساسه الروحيّ بفلسطينيته. 
ورغم اعتماده على أحداث  تاريخية، تظلّ كتاباته تأكيدا أنّ قوة الرواية لا تكمن في موضوعها ولا في ما حدث أو يحدث، وإنما في كيفية نقله والتعبير عنه. هذا ما نسميه "الأسلوب"، وهذا ما منح الياس خوري مكانته أو بالأحرى بصمته الخاص.
 
الياس خوري صاحب تجربة أدبية مميزة ومتنامية حقق فيها المعادلة الأصعب بين النجاح الجماهيري والاعجاب النقدي. ترجمت أعماله، وهي أكثر من عشر روايات، الى الكثير من لغات العالم، كما تحوّلت روايته "باب الشمس" الى فيلم سينمائي من اخراج يسري نصرالله وبطولة عدد من الممثلين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين والمصريين، منهم باسل خياط، حلا عمران، دارينا الجندي، باسم سمرة وغيرهم.
ومن المجحف أن نتحدث عن موضوع الرواية في أدب خوري من دون الالتفات الى بنائه الفني الذي شكّل في ذاته عمارة أدبية جعلته في ريادة الأدب اللبناني والعربي. وقد نختصر خصائص كتابته بهذا المثلث الذهبي: الرمز،، الموروث الثقافي، الحكايات المتناسلة.
يأتي رحيل الياس خوري اليوم في وقتٍ تعيش فيه فلسطين نكبة جديدة، وهو كان اختار لأحد كتبه عنوان "النكبة المستمرة"، ما يومئ الى اعتقاده بأن النكبة الفلسطينيَّة لم تبدأ وتنتهِ في سنة 1948، وإنَّما هو مسارٌ بدأ في سنة 1948، ولا يزال مستمرًّا حتى الآن.
قبل فترة بسيطة، كتب صاحب "سينالكول" عن ألمه، وهو على سرير المرض. وصف وجعه المتوحشّ بكثيرٍ من المرارة. ومع ذلك، لم يفقد الأمل ولا الشجاعة: "كيف يفقد الشجاعة من امتزجت تجربته بالتراب منذ بداية المقاومة الفلسطينية؟".
المرض ضربه بوحشيةٍ قبل عام مثلما أخذ الاحتلال يضرب بوحشية فلسطين وغزة. "لكنهما صامدتان لا تتزحزحان. إنهما النموذج الذي أتعلم منه كل يوم حب الحياة".
هكذا ختم مقالته، وحياته أيضاً...
 

اقرأ في النهار Premium