بقيَت في الظل مخفيَّةً نحو 100 سنة قبل ظهورها لدى أُسرة فرنسية. وحين عُرضَت سنة 2021 في المزاد العلني (سوثبيز) بيعت بعشرة ملايين دولار، المبلغ الذي يهز رسامه في قبره، هو الذي لم يبِع في حياته سوى لوحة واحدة، ومات فقيرًا منتحرًا مرتين: جسديًّا ونفسيًّا، في حادثة غريبة تشبه حياته الغريبة.
وها هي اللوحة ذاتُها من جديد تثير اليوم أَحاديث في الصحافة المتخصصة حول رغبة مالكها الأَخير ببيعها في المزاد العلني من جديد.
فماذا عنها وما قصَّتُها؟
الميل إِلى المشاهد الريفية
هي من روائع ما رسمَت ريشةُ فنسنت فان غوخ (1853-1890). عَنْوَنَها "الشقيقان وطاحونة پــواڤْـــر". وضعها في ربيع سنة 1887، وهي من مجموعة لوحات مماثلة في المكان ذاته سُمِّـيَت "مجموعة مونمارتر"، عمل عليها فان غوخ طيلة 1886و1887، أَيام عاش في ذاك الحي الباريسي الشهير ساكنًا في المنزل رقم 54 مع شقيقه تِــيُــو في شارع لُوپـيـك.
وهو، عوض أَن يؤْخذ بمدنيات باريس الهندسية، مال إِلى رسم المناظر والمشاهد الريفية في ضواحي العاصمة. ويلفت أَن لوحاته الباريسية تلك، طيلة تَينِك السنتَين، كانت في السنة الأُولى (1886) بأَلوان قاتمة كما أَعماله الأُولى في هولندا وبروكسيل. بينما في ربيع السنة الثانية (1887) أَشرقت أَلوانه بين أَنوار وظلال وترسخت أَعمال تلك الفترة في قلب الحركة الانطباعية وظاهرة التنقيطية.
شقيقان وطاحونة
في لوحته المعنية ("الشقيقان وطاحونة پــواڤْـــر") رسم مشهدًا في الشارع وسْط حي مونمارتر. وهو شارع غير مبلَّط، تتفاوت أَحجاره حجمًا ورصًّا، وتتخذ الطاحونة في الوسَط حيِّزًا واسعًا من المشهد، وهي واحدة من طواحين عدة في ذاك الحي. صحيح أَنها في زمن فان غوخ لم تَعُد نعمل، لكنها بقيَت تزيّن الشارع وتستقطب السياح. فالشخصان اللابسان الأَسود يمران أمام طاحونة قديمة، تحوَّلت إِلى حانة، وأَمامهما طفلان آتيان من الجهة المعاكسة.
وعن أُوريليا ڤانڤورد (رئيسة قسم الانطباعية والفن الحديث في مؤَسسة "سوثبيز") أَن "معظم لوحات فان غوخ في مونمارتر باتت حاليًا في متاحف دولية، وكان نادرًا جدًّا أَن تكون لوحة منها في مجموعة خاصة. وعلى عكس معاصرين من الفنانين، كان فان غوخ يهتم برسم الريف والمشاهد المتقشِّفة في حي مونمارتر، ولم يحفل أَبدًا بمشاهد الرقص والحفلات في الحانات الليلية. وهو وضع نحو 200 لوحة إِبان وجوده في باريس، لكن لوحات مجموعة مونمارتر تبقى الأكثر طلبًا في المزادات العلنية".
وعن إِتيانّ هيلمان (مدير فرع "سوثبيز" في باريس): أَنَّ "هذه اللوحة وضعَها فان غوخ في مرحلة مفصلية من مسيرته الفنية، فهو حين وصل إِلى باريس سنة 1886، التقى بالإِنطباعيين رنوار وتولوز لوتريك وسواهما، وتأَثر خصوصًا بالرسام بول سينياك (1863-1935) رائد التنقيطية، وبعدئذٍ وضع لوحته تلك، عابقةً بالنور في فضاء باريس، مثلما عرف الشمس لاحقًا حين انتقل إِلى جنوب فرنسا".
اللوحة عند عرضها للمزاد في "سوثبيز"
100 سنة في الظل
هذه اللوحة بقيَت منذ 1920 في حيازة أُسرة فرنسية نحو 100 سنة. لكنها، وإِن لم تُعرَض للجمهور في معرض أَو متحف، ظهرت في وثائق وإِحصاءات وسبعة كاتالوغات (صُوَر عنها بالأَبيض والأسود) خاصة بأَعمال فان غوخ.
إِبان عرضها في مزاد سوثبيز، قال مدير المزاد: "إِنها الطواحين تصمُت كي تضجَّ الحانات في مونمارتر". وكانت مؤَسسة "سوثبيز"، سنة 2019، باعت لوحة "متنزهون في حديقة عامة باريسية" لفان غوخ (رسمها في خريف 1886) بمبلغ 9 ملايين دولار في نيويورك، وباعت له لوحة أُخرى في مزاد باريس بسبعة ملايين يورو من تلك الحقبة الباريسية ذاتها.
ونادرًا ما بقيت لوحات فان غوخ لفترة مونمارتر في مجموعات خاصة، لأَنها من كُنوز متحف فان غوخ في أَمستردام أَو لدى متاحف عامة أُخرى في العالم.
متنزهون في حديقة عامةباريسية