بيروت- نبيل مملوك
تميّز صاحب "أميرال الطيور" بتجربة شعرية خاصة أدخل فيها التراث العاملي والديني إلى قلب القصيدة الكلاسيكيّة (العموديّة) والقصيدة المعاصرة (التفعيلة)، فضلاً عن العروج في قصائد كثيرة نحو التصوّف، لا سيّما في مجموعتيه " النازلون على الرّيح " و"اليأس من الوردة".
هذه التجربة كانت جوهر دراسات نقدية كثيرة مثل "الرؤية إلى العالم في شعر محمّد علي شمس الدين" لـفاروق شويخ (دار موزاييك -2022)، وهي دراسة بنيويّة تكوينيّة تصبّ في خانة النّقد الاجتماعي للأدب، تناولت رؤية الشاعر تجاه الله والمجتمع لا سيّما الريفي الجنوبي (العاملي) والإنسان. وثمة دراسة أخرى حملت عنوان "الواقع وشعريّته في شعر محمّد علي شمس الدين" لـداوود مهنّا، وهي جزء من أطروحة لنيل الدكتوراه، وقد تناولت بمنهج تحليليّ تأويلي جوانب قصيدة شمس الدين على الأصعد العاطفيّة والفلسفيّة والكتابيّة والمجتمعيّة والصوفيّة.
القصيدة والمسافة
حافظت قصيدة شمس الدين على تعدّد أبوابها من حيث المعنى، ونقلت صراعات الشاعر مع الشكل، وبقي مفهوم الكتابة عنده موضع شكّ وبحث وتعقّب: "سألتُ صاحبي / وكان مثلي ينحني على الورق / أما سئمت الانحاء؟/ فقال: في انحناءاتي أرى السماء...".
في هذا المقطع الأقرب إلى قصيدة النّثر من ناحية المعايير (التكثيف/ التوهّج/ المجانيّة/ والإيقاع الذي وّفره الوزن)، يُبقي الشاعر المسافة بينه وبين التعريف المطلق للشعر، "ففي انحناءاتي أرى السماء".
استخدام الانحناء بصيغة الجمع ينمّ عن فعل مستدام ومتكرّر سواء في المستقبل القريب أو الماضي القريب، وتوظيف لفظة السماء التي تترجم في قاموسنا اللاواعي البشري على أنّها اللامتناهي والتي تقودنا إلى الله وعظمته المطلقة إشارة شعريّة إلى البدء بتعريف الكون والتكوين من خلال الكتابة ومن خلال فعل الترقّب (الرؤية).
وفي إحدى المقابلات التي سجّلها تلفزيون العربي 2، يعزّز شمس الدين تمسّكه بهذه المسافة حين تطرّق إلى الصيغة المتحرّكة للكلمة وربطها بتعقّب الآثار الكونيّة والإنسانيّة التي تقودنا إلى الله.
في مجموعته الأخيرة "خدوش على التّاج" (دار الرّافدين- 2022)، والتي خرجت إلى النور بعد أشهر من وفاته، ترك شمس الدين مساحة شاسعة لصوتين: صوت يبحث عن عاطفته وأحواله، وصوت يحارب الغياب بالتساؤل أو الحوار غير المباشر. نقرأ: "فأنا مذ أحببتك لم أعرف إلّاك/ فلماذا أنت هنا وهناك؟" (قصيدة أحوال).
ولعلّ المسافة التي بحث عنها الشاعر كانت من حصّة خياله الذي لم يهدأ ولم تخلّ في هذه المجموعة تحديدًا عن دوره في استحضار الموجود وإعطائه منحًا عاطفيّاً يتجاوز كيان المرأة وجمالها نحو الكون وهالته: "زرقاء تصعد كالنوارس/ في سماء الأبيض المتوسط/ الرؤيا..." (قصيدة ليلى).
أميرال الطيور والتصوّف
لم تكن قصيدة شمس الدين مجرّد قفز نحو المجاز وكسر التشيّوء، بل كانت نصًّا يحاول دومًا جعل القرّاء كتلة أو جماعة متماسكة لها رؤيتها وتعثر على تأويلاتها في حقل اللاوعي العاصف والضبابي.
في قصيدة "وليّ الريح" من مجموعته "أميرال الطيور" (دار الآداب 1992) استحضار للرمز والهالة القدسيّة ومحاولة موازنة ما بين العاطفة والعقل في العمل الأدبي (القصيدة): "رجفت اسلاك البرق الشامي/ وهرول نبع خلف خطاك/ هذا انت وجبريل يؤذن في الملكوت/ ويجلس بين يديك/ فتصطف ملائكة الرحمن وراءك صفا صفا".
لم يتخلّ الشاعر عن الرمز، ولا سيّما الديني، ولم يخرج من معجم التصوّف، كأنّه يريد التوصيف والتصوير كي يبقي على رحلته كطير أو كأميرال الطيور ليقفز من سياق شعريّ إلى سياق آخر، محافظًا على النقاش الشعريّ الداخلي بينه وبين قصيدته، وبينه وبين ذاته البشريّة في آن: "وتدور دماؤك في الاقداح/ وتصعد حتى تلمس وجه القبّة".
هذا انت ولي الدم وقربان اللغة الصعبة/ واخيراً ترحل عني... اختتام السياق بالرحيل يعكس رغبة دفينة لدى شمس الدين بالاستمرار بالبحث عن أسئلة أخرى وزوايا لمناجاة لا تنتهي.
عامان على رحيل من غنّى نظمًا ومعنى لـ"زينب" و"مريم" و"ليلى"، وكتب "قصائد مهرّبة إلى آسيا"، ولا تزال قصيدته تهاجر من متلقٍ إلى آخر لتكتشف جوانبها الجديدة، وما لم يقله لها شاعرها بصيغة مباشرة، يبقى محمّد علي شمس الدين شاعرًا عربيًّا ولبنانيًّا تحاول كلمته أن تشتري الهدوء بالعاطفة والغنائيّة والتصويريّة، لكنّها ترتطم بجداريّات التأويل التي تفتح كوّة في جدار التكاثر القصديّ والدلاليّ.