النهار

"المرآة السّوداء"... عالم التّكنولوجيا هشّ وقابل للتّدمير!
شريف صالح
المصدر: بيروت- النهار العربي
مأساوية ما حدث في لبنان عبر تفجير أجهزة "البيجرز" واللاسلكي، تذكرنا بهشاشة عالمنا وقابليته للتدمير بطرق لانهائية. رشة رذاذ فيروسات (كورونا)، قنبلة نووية بضغظة زر عن بعد، شريحة لا تُرى بالعين المجردة تُزرع في الهواتف وأجهزة الاتصال. ولهذا السبب قال آينشتاين ساخرًا إنه في حال اشتعلت حرب عالمية رابعة فسلاحها سيكون الحجارة والعصي، إدراكاً منه أن القدرة اللانهائية للأسلحة الخفية والذكية ستكون كافية لإبادة الحضارة البشرية تماماً. ليس آينشتاين وحده الذي كان ينظر إلى التطور التقني بعين التشاؤم والارتياب، بل يشاركه النظرة نفسها تشارلي بروكر مؤلف سلسلة "المرآة السوداء" Black Mirror، التي تستعد لإطلاق نسخة سابعة تتكون من ست حلقات، تستكمل الهواجس ذاتها حول ديستوبيا الواقع الإنساني وهو ينهار ويتفكك بفعل تعقيدات التكنولوجيا وتقنياتها.
"المرآة السّوداء"... عالم التّكنولوجيا هشّ وقابل للتّدمير!
بوستر "المرآة السوداء"
A+   A-
 
مأساوية ما حدث في لبنان عبر تفجير أجهزة "البيجرز" واللاسلكي، تذكرنا بهشاشة عالمنا وقابليته للتدمير بطرق لانهائية: رشة رذاذ فيروسات (كورونا)، قنبلة نووية بضغظة زر عن بعد، شريحة لا تُرى بالعين المجردة تُزرع في الهواتف وأجهزة الاتصال. ولهذا السبب قال آينشتاين ساخراً إنه إذا اشتعلت حرب عالمية رابعة فسلاحها سيكون الحجارة والعصي، إدراكاً منه أن القدرة اللانهائية للأسلحة الخفية والذكية ستكون كافية لإبادة الحضارة البشرية تماماً.
ليس آينشتاين وحده الذي كان ينظر إلى التطور التقني بعين التشاؤم والارتياب، بل يشاركه النظرة نفسها تشارلي بروكر مؤلف سلسلة "المرآة السوداء" Black Mirror، التي تستعد لإطلاق نسخة سابعة تتكون من ست حلقات، تستكمل الهواجس ذاتها حول ديستوبيا الواقع الإنساني وهو ينهار ويتفكك بفعل تعقيدات التكنولوجيا وتقنياتها.
يشير مصطلح "التقنية" إلى أي أداة أو تطبيق عملي قائم على فكرة علمية ومهارة استعمال، لحل مشكلة معينة يواجهها الإنسان.
وبفضل الثورة الرقمية التي نعيشها منذ خمسينات القرن الماضي، لم يتحول العالم إلى "قرية صغيرة" على حد تعبير مارشال ماكلوهان، بكل حمولته "الرومانسية" التي توحي بالألفة والسعادة بين البشر، بل تحول إلى شبكة مظلمة مثل شباك العنبكوت، ولا أحد يعلم من يمسك بطرف الخيط؟ من الدُمية؟ ومن يحركها؟
كانت أحلام البشر ـ عبر الحضارات المختلفة ـ تسعى إلى مزيد من الراحة والسعادة، والسيطرة على الطبيعة والاستثمار فيها، وسرعة الإنجاز. فمن يخترع البندقية يقتل أسرع ممن اخترع السيف، ومن ابتكر الطائرة يهزم من يمتطي الحصان.
فماذا عن الهواتف الذكية، و"مراياها السوداء" التي تنظر إلينا مثلما ننظر إليها؟ ماذا عن آلاف التطبيقات التي نتعاقد معها على بنود لا نقرأها؟ سيارات وطائرات بلا سائق ولا طيّار؟
 
 
 
قوة المعرفة
المعادلة الآن أن من يملك "معرفة" أكبر يبتكر "تقنية" أفضل، ويقتل أسرع. لذلك أنتجت الثورة الرقمية نظرة مزدوجة انتشرت في الواقع، والواقع الافتراضي، والأفلام والدراما والروايات. فمن يهلل لها يتحدث عن مكتسباتها العظيمة، والرفاهية، والتعلم بزرع كبسولة في المخ، والسيارات والمسيّرات الذكية.
ومن يشعر بالرعب مما يجري يضعنا وجهاً لوجه أمام الواقع وقد صار "ديستوبيا رقمية" جعلتنا دُمى يتلاعب بها مجهولون قابعون في عالم مظلم.
لم تحرر التكنولوجيا الإنسان ـ وفق ذلك التصور السعيد ـ بل قيّدته وكبّلته، وضعته تحت السيطرة والرقابة على مدار الساعة، ولم يعد ثمة حاجة إلى تجنيد شخص ودفع راتب له كي يتجسس عليك ما دام هاتفك الذكي يتكفل بذلك عبر تطبيق خفي يخترقه. 
ذلك التخوف الرقابي ناقشه بالتفصيل ستيفن بايكر في كتابه "الرقميون: أنت مراقب 24/24"، فكل شيء معروف عنك، انتماؤك السياسي، مشترياتك من البقالة، تحركاتك، علاقاتك العاطفية، حتى الحالة الصحية يمكن الاطلاع عليها عن طريق القمامة التي تُلقيها. فالتقنية الفائقة التطور تسمح الآن بالحصول على كم لا نهائي من المعلومات، بسرعة فائقة، تقود إلى التلاعب بك وتشويش وعيك، والسيطرة عليك، وابتزازك، وقتلك إن لزم الأمر.
تلك "الديستوبيا الرقمية" هي التي تحرك سلسلة "المرآة السوداء"، بحيث نجد كل الشخصيات في قبضة التكنولوجيا، يُدارون كالمنومين مغناطيسياً، قد يحظون برفاهية مزيفة، لكنهم في النهاية ضحايا عالم هش.
 
تسلية دموية مظلمة
لم تعد مسارات الحياة قابلة للاستمرار من دون الرقمنة. باتت الشوارع مدججة بالكاميرات. الجرائم الوحشية ترتكب الآن وتصور لترويج الفيديو لجمهور يحب تلك التسلية الدموية المظلمة.
وفي أولى الحلقات "النشيد الوطني" يختطف شخص مجهول "الأميرة سوزانا" ولم يطلب الخاطف فدية أو الزواج منها أو الإفراج عن معتقلين وغير ذلك من مطالب تقليدية لعمليات الخطف، بل طلب أن يظهر رئيس الوزراء "مايكل" على الشاشات وأمام أكثر من مليار متفرج، وهو يضاجع خنزيراً! طلب في منتهى الغرابة والعبثية يعيد طرح أسئلة حول قيمنا الأخلاقية والاجتماعية، ودوافع جرائم التكنولوجيا، ولا تخفى السخرية من طبيعة السلطة ورموزها.
في ثاني حلقة "خمسة عشر مليون ميزة" يعيش البطل والبطلة في مكان ما كأنه فندق بالغ الرفاهية حيث كل شيء يدار باللمس والإيحاء، الجدران نفسها ما هي إلا شاشات. لا وجود للعملة النقدية المتعارف عليها، بل يركب الشخص دراجة مولدة للطاقة يومياً، مقابل الحصول على "مزايا" يستخدمها في شراء ما يحتاج إليه. والمفارقة هنا أن المكان برغم كل ما يوفره من رفاهية، لكنه يوحي للمتفرج بالسجن ومحاصرة الشاشات لنا في كل لحظة.
وحين تدخل البطلة "آبي" إلى مسابقة غنائية بمساعدة البطل، تفاجأ بأن لجنة التحكيم ترشحها لتكون بطلة أفلام إباحية. في إشارة إلى سلطات عليا تتحكم في رغباتنا وأحلامنا وتحول مساراتنا في الحياة كما يحلو لها، إضافة إلى منطق التسليع الذي يجعل كل شيء قابلاً للشراء.
 
 
 
تشبيح الواقع
يلاحظ على الحلقات بوجه عام تشبيح الواقع، فهو ظاهرياً لا يختلف كثيراً عن واقعنا، وعشرات الشخصيات تشبه الناس في كل مكان، لكنها لا تستطيع الإفلات من قبضة التكنولوجيا.
تطرح كل حلقة فكرة أساسية وحبكة خاصة بها، فلا امتداد للأفكار والشخصيات، بل هي فرضية علمية مستوحاة من المستقبل القريب، أو تختبر ما اختُرع بالفعل.
مثلاً حلقة "دب أبيض" (الجزء الثاني)، تتناول قصة فيكتوريا المرأة السجينة في لعبة تمثيلية، حيث تستيقظ فاقدة للذاكرة، كناية عن تأثير الرقمنة في محو هويتنا ووعينا بذاتنا، وتجد نفسها محاطة بمجموعة كبيرة من الناس لا يفعلون شيئاً سوى التقاط الصور لها، وعندما يطاردها قناص للفتك بها تستنجد بهؤلاء وتصرخ أنها "إنسانة" لكن لا أحد يبالي بها، ثم تتلقى مساعدة من شابة مجهولة تخبرها أن هؤلاء مستلبون نتيجة إشارة معينة تلقوها عبر هواتفهم وشاشات الكمبيوتر، والحل الوحيد هو الوصول إلى منطقة "الدب الأبيض" وحرق محطة الإرسال نفسها. كناية عن سهولة التحكم في الملايين عن بعد، وتحول البشر إلى مجتمع فرجوي، إضافة إلى تراسل الواقع والافتراض والتخييل، في لعبة تعيد نفسها إلى ما لانهاية. 
 
 
ماذا لو استطاع الزوج أن يكتشف خيانة زوجته ليس عن طريق مراقبتها، بل عبر مراجعة شريط ذاكرتها كأنه يراجع كاميرا؟ ماذا لو تحولت شبكات التلفزة الرقمية إلى أداة تتجسس على حياة الناس في الواقع وتحولها إلى قصص تلفزيونية؟ ماذا لو أمكن اختراع نسخة من رائد الفضاء تواصل حياته أثناء غيابه الطويل؟ ماذا لو نجحنا في التواصل مع الموتى؟ 
من المتوقع أن تواصل السلسلة في جزئها السابع وضع المشاهدين وجهاً لوجه أمام مأزق الرقمنة وتداخل العوالم، والحبكات التي تنطلق من مبدأ "ماذا... لو".
وفي تصريح له أشار تشارلي بروكر إلى أنه استلهم السلسلة التي انطلقت عام 2011 من مسلسل The Twilight Zone الذي عالج قضايا الواقع عبر أماكن وشخصيات متخلية. فتلك الكابوسية أتاحت له التهرب من الرقابة، وتغريب الواقع، وطرح أسوأ احتمالات الرقمنة، ورصد تراجع العواطف والحس الإنساني، كأن البشر كلما أوغلوا في الاستسلام للتكنولوجيا، استعادوا صورتهم الوحشية من أزمنة ما قبل الحضارات.
 

اقرأ في النهار Premium