في كتابها "تلال الفردوس" تتوقف مينيكه شيبر عند منحوتة عملاقة بعنوان "هي كاتدرائية" (1966) للفنانة نيكي دي سان فال، تجسد امرأة ضخمة مستلقية وساقاها مفتوحتان، على اتساعهما، وثمة مهبل هائل يدعو الزائرين إلى مساحة داخلية مبهجة مليئة بعناصر الجذب، صالة سينما، وقبة سماوية، وحوض كائنات بحرية، ومكتبة.
دققت الكاتبة المنحوتة بوصفها رؤية مضادة للقيم التقليدية، ويمكننا أيضاً أن نقرأها كسلسلة وعود لا نهائية يثيرها جسد المرأة، أو يتوقعها المخيال الذكوري.
باستعارة هذا المجاز الفني، يستحق جسد تحية كاريوكا (1915 ـ 1999) أن نعتبره "كاتدرائية" دالة إلى تحولات القرن العشرين، ونحن هنا لا نتحدث عن جسد واقعي من الميلاد إلى الموت، بل عن ترميزات وتمثلات عكسها جسدها.
فمنذ مطلع الثلاثينات من القرن العشرين، وحتى أعتاب الألفية الجديدة، تابع ملايين البشر نشاطها الجسدي/ الفني: الراقص، المسرحي، الحواري، الفوتوغرافي، الاجتماعي، عاكساً تحولات القرن العشرين كله.
كازينو بديعة
تشترك كاريوكا مع فنانات أخريات في الهروب المبكر من الأسرة، والتمرد على قيمها نتيجة الإساءة والإيذاء والقهر، فحسب ما يروى عاشت تحية في كنف أخيها غير الشقيق لأنها كانت يتيمة الأب، وبسبب جموحها وشغفها بالرقص، عاقبها بتقييد جسدها، وحلاقة شعرها. أي محو أهم علاماتها الأنثوية، وإخضاعها التام لنفوذ الذكر، وكانت النتيجة أنها حررت نفسها وأطلقت يديها ورجليها للمجهول.
تعد تحية الراقصة المصرية الوحيدة المحظوظة بقراءة ثقافية قدمها المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد (1935 ـ 2003).
ذهب سعيد للفرجة عليها في كازينو بديعة، في سن المراهقة، ولا يُخفي تلذذه بحضورها الجسداني ـ غير الموصوم ـ عاقداً المقارنة بينها وبين أم كلثوم في تربعها على القمة لسنوات، ورمزيتها الوطنية.
ويربط "تقدميتها" بصعود الحركة النسائية، وعلاقتها بالحزب "الشيوعي" لكنه لم يعط اهتماماً كافياً لثلاثة عوامل:
ـ تأثير ثورة 1919 على الوعي المصري والذي تجلى في نماذج مثل أم كلثوم وعبد الوهاب ونجيب محفوظ. وهو وعي سعى حثيثاً إلى الاستقلال، وفي الوقت عينه إثبات أنه لا يقل في شيء عن أوروبا. كان ثمة ندية، سواء عبر قدوم فنانين أجانب في مصر، أو محاولة كاريوكا وغيرها الظهور في أفلام عالمية.
ـ علاقتها بأستاذتها بديعة مصابني التي سعت إلى جذب الأجانب والطبقة العليا، عبر الارتقاء بفن الرقص وتخليصه من الوصمة الاجتماعية.
ـ دور الفنان والمثقف النبيل سليمان باشا نجيب سندها الكبير وأبوها الروحي.
صحيح أن كاريوكا (واسمها الحقيقي بدوية وليس تحية كما ذكر سعيد) لم تتلق تعليماً نظامياً لكنّ الحضور الثقافي لجسدها في شبابها الباكر، عكس تمردها، استقلاليتها، وانفتاحها على العالم. ويكفي مطالعة أفلامها الأولى والفوتوغرافيا الخاصة بها التي تعكس الموضة الأوروبية الراقية، واعتزازها بنفسها. حتى لقب "كاريوكا" نالته بسبب إجادتها رقصةً من التراث البرازيلي تحمل هذا الاسم.
الغازية والعالمة
يفرق سعيد تفريقاً دقيقاً بين مفهومي "الغازية" و"العالمة"، فالأولى موصومة أخلاقياً واجتماعياً، وهي راقصة شعبية مبتذلة وربما سيئة السمعة، مقابل العالمة التي تتمتع بالثقافة وتجيد الغناء، أي مواهبها لا تقتصر على الرقص فقط.
كانت كاريوكا مثالاً فذاً على دمج المفهومين في مزاياهما، فهي أقرب إلى رقص "الغوازي" الشرقي، غير المختلط بالرقص الغربي و"المودرن"، وتلك النقطة أسهب سعيد في تحليلها، من جهة أنها كانت بعيدة عن أداء الراقصات المبتذلات، والوقوع في الابتزاز وتجارة الجسد، أي أنها "غازية غير موصومة" بإرث مخجل، وأيضاً "عالمة" جذابة ومؤثرة في مجتمعها، أو على حد تعبيره يسعى "رجال القانون والسياسة والأدب إلى رفقتها".
كان رقصها عمودياً في أقل حيز ممكن ـ وليس أفقياً مثل سامية جمال ـ ويرتكز على الخصر وهز البطن حسب الأسلوب التقليدي للغوازي، لكنه يتسم بالسمو والكبرياء في الأداء، حيث جوهر الرقص "ليس في كثرة حركات الراقصة بل في قلّتها".
هنا يركز سعيد على سحر ابتسامتها، والتي ـ بلا شك ـ تعكس الثقة والدلال وعدم الشعور بالدونية والخجل إزاء ما تقدمه، فالرقص حالة فرح وسعادة داخلية يعيشها الجسد ويعبر عنها.
بالعودة إلى رقصاتها في أفلامها، يتبين أن أزياءها تعكس ذلك الدمج بين "الغازية" و"العالمية"، فأحياناً تكون بدلة الرقص بمواصفات عصرية، وأحياناً أقرب إلى المخيال العربي المستوحى من أجواء ألف ليلة وليلة، أو جلابيب الفلاحات والغجر والغوازي.
وبرغم صحة مقارنة سعيد بين كاريوكا وأم كلثوم في المكانة والرمزية الوطنية، لكن الأكثر أهمية دورهما الثوري، لأن أم كلثوم أحدثت نقلة نوعية في الغناء، وتجاوزت قيم القرن التاسع عشر، وفعلت تحية إنجازاً ثورياً مماثلاً في الرقص. وباختفاء السيدتين العظيمتين، اتجه فني الغناء والرقص إلى الانحدار.
شهوية وغضبية وأمومية
يقسم بعضهم قوى النفس إلى: عقلية، غضبية، شهوية، وهمية. ولا شك بأن كاريوكا كانت أيقونة شهوية تستثير المخيال الذكوري في شبابها.
وتنبع إيروسية أو شهوية كاريوكا، من جمالها الواثق غير المبتذل، والملاحة العربية في اتساع العينين وشعرها الأسود الطويل اللامع، وتلك اللدونة المتزنة ما بين الرشاقة والامتلاء، والخصر النحيل، مع ساقين طويلتين في تمام التناسق، وابتسامة فرحة.
لذا سعى كثيرون من شباب أثرياء ونافذين وفنانين إلى الزواج منها، وتدل زيجاتها الكثيرة ( 13 أو 17 مرة) إلى أن جسدها أصبح رمزاً خطراً جاذباً للرجال ومخيفاً لهم في آن.
وإلى اليوم يتندر كثيرون باعتبارها صاحبة رقم قياسي في مرات الزواج المعلن، وما يرتبط بذلك من تخييل ورغبات.
لكنّ تلك الزيجات تكشف عن اندفاع عاطفي، وسوء اختيار، وطاقة غضبية لا تستثني أحداً. وثمة تصريحات ومواقف لا تُنسى لها، تعكس غضبها المتسرع، أو عن حق.
كما ينم إصرارها على تكرار الزواج (معظمهم كانوا أصغر منها سناً) عن رغبة دفينة في دفء الأسرة وإنجاب طفل (والدها نفسه كان مزواجاً ارتبط بأمها التي تصغره بنحو أربعين عاماً).
وحين فشلت في الإنجاب وفي الاحتفاظ بزيجتها الطويلة والأخيرة من الفنان فايز حلاوة بعدما طردها وأساء إليها، استسلمت واكتفت بتبني الطفلة "عطية الله".
هذه المحفزات: الشهوية، والغضبية، والأمومية، صاغت تحولات جسدها عبر ستة عقود.
التحجيبة
مالت تحية إلى البدانة (كمعظم الأمهات) دون أن تكون أماً، بل بفعل الزمن والأدوية. لذلك اعتزلت الرقص في سن الأربعين تقريباً، وكانت تبدو أكبر من سنها.
ثم دخل جسدها طوره الأخير مع ارتداء "التحجيبة"، فبرغم خضوعها مثل معظم الفنانات لتأثير الشعراوي، لكنها لم تلبس ما يسمى "الحجاب الشرعي" ولا النقاب، ولا أعلنت الاعتزال، بل اكتفت بتحجيبة بسيطة تلف رأسها، مستعملة "طرحة" بيضاء غالباً، كأنها مديرة مدرسة على المعاش، أو جدة طيبة.
انتقلتْ من بدلة الرقص، والبكيني، والفرح، إلى السكون والصمت والرضا. وتحول جسدها من تمرد الطفلة، والأناقة الغربية، وبدلات الرقص الغجرية، والممثلة الخطرة التي تهدد الذكور والأسر المستقرة، والمرأة التقدمية والمناضلة الوطنية حتى ظهورها النقابي الشهير أواخر أيامها. تحول هذا الجسد إلى حالة صوفية.
يعبر إدوارد سعيد عن خيبته حين شاهدها على المسرح فلاحة بدينة فظة في سبعينات القرن الماضي، ثم يستطرد في وصف لقائه الأخير بها حيث "كانت تُغطي ذراعيها وساقيها بكمّين طويلين وجوربين غامقين مثل أيّ مسلمة تقية".
ولا شك بأنه كان متعاطفاً مع مآلات جسدها، التي هي نفسها مآلات القرن العشرين في مصر. فهو جسد ثري في تمثلاته وتأويلاته، درامي في تحولاته، ثوري في شروقه، وصوفي في غروبه.
تماهتْ معه صاحبته فرحاً به في شبابها، ثم سرعان ما انفصلت عنه شيئاً فشيئاً، حيث راح الجسد يثقُل ويعجز، بينما روحها تشف وتزهد. بلا ندم على ما فقدت، ولا زهو بما حققت.