النهار

"فريندز" في عيده الـ30: مسلسلٌ خالدٌ مشحون بالنوستالجيا
شربل بكاسيني
المصدر: بيروت - "النهار العربي"
"فريندز" في عيده الـ30: مسلسلٌ خالدٌ مشحون بالنوستالجيا
ملصق ترويجي لمسلسل "فريندز" يجمع أبطاله الستّة.
A+   A-
بعد ثلاثة عقود على عرضه الأول ليل الخميس 22 أيلول (سبتمبر) 2024، لا يزال المسلسل الكوميدي "فريندز" (Friends/الأصدقاء) يجذب الجيل الذي تابعه في بداياته، كما الأجيال الجديدة. على مدى عشرة مواسم، تحوّل "فريندز" من مجرّد عرض ترفيهيّ محبوب إلى ظاهرة ثقافية تستحقّ التوقّف عندها، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الشعبية الأميركية و"الأنغلوسفير" بشكل عامّ. جميعنا حفظنا عن ظهر قلب شارة البداية "سأكون دائماً بجانبك"، ونردّد عباراته الشهيرة التي دخلت اللغة المحكيّة اليوميّة.

ما الذي يجعل "فريندز" تفصيلاً ثابتاً من تاريخ التلفزيون، في حين أن عدد من المسلسلات الأخرى التي تعود للفترة نفسها أو الأقرب زمنيّاً إلى يومنا ("ماد أباوت يو"، "سپن سيتي"، "ديسپرت هاوسوايفز"...) قد تلاشت تقريباً من الذاكرة؟ بينما يحتفل "فريندز" بعيده الـ30، نستكشف الأسباب التي ضمنت مكانته في قلب الثقافة الشعبية، وكيف حافظ على حضوره رغم مرور الزمن وتغيّر الظروف الاجتماعية والفورة التكنولوجية.

شعبية لم تسقط بمرور الزمن
في جوهره، يروي "فريندز" قصصاً غير مرتبطة بزمان معيّن. يصوّر خيبات الأمل والطرائف، وجملة مغامرات يمرّ بها ستّة أصدقاء في العشرينات من العمر، يتنقّلون بين قصص الحب والبحث عن وظائف، فيما الصداقة هي الثابت الوحيد. ورغم أن الحيّز المكاني محدود بمدينة نيويورك، فإنّ المواضيع التي يتناولها المسلسل، مثل رحلة العثور على الذات، وتكوين علاقات عميقة، والتعامل مع تقلّبات الحياة، هي مواضيع عالميّة، تُطرح في قالب بسيط ودافئ، بعيداً من التأديب وإطلاق النظريات والتكلّف في تمرير العِبَر.
 
 
ظلّ المسلسل متاحاً للعموم بفضل منصّات البثّ والفيديو حسب الطلب مثل "نتفليكس" وHBO Max وTBS. ولا يقتصر الأمر فقط على شاشات التلفزيون والهواتف، بل يتعدّاه إلى شاشات العرض في الطائرات والنوادي الرياضية والمقاهي المخصّصة لجمهور "فريندز"، حيث يمكن للمشاهدين القدامى والجدد تتبّع الحلقات أو مشاهدة مقتطفات منها بسهولة.

في لبنان مثلاً، قلّما يخرج "فريندز" من قائمة العشرة الأكثر مشاهدة على "نتفليكس"، وإذا حصل ذلك، فلصالح مسلسل أُضيف حديثاً ودخل موجة "الڤايرل والترند". وخلال عامه الأول على HBO Max، استمرّ في جذب أعداد هائلة من المشاهدين، حتّى أنّه في عام 2022، كان لا يزال واحداً من أكثر العروض بثّاً على المنصّة.
 
 
رغم أنّ "نتفليكس" تتردّد في الكشف عن بيانات مشاهداتها، أشارت تقارير "نيلسن" إلى أنّ المسلسل شكّل نحو أربعة في المئة من إجمالي المشاهدات على المنصة في عام 2018. رقم متواضع، غير أنّه يجب الأخذ في الاعتبار العدد الهائل للمستخدمين الذين يشاهدون ساعات من المحتوى على المنصة. هذا يفسّر سبب دفع "نتفليكس" مبلغاً ضخماً قُدّر بـ 100 مليون دولار في نهاية عام 2018 لاستمرار بثّ "فريندز" لسنة إضافية، قبل أن ينتقل المسلسل إلى HBO Max في عام 2020، والتي ضاعفت اهتمامها به عن طريق جمع طاقم العمل كاملاً لتقديم حلقة خاصة طال انتظارها هي "Friends Reunion".

الأكثر شعبية على التلفزيون؟
رغم أنّ "فريندز" خارج سباق العروض وتصنيفات الأكثر شعبية بالشكل التقليدي، نظراً لغياب أيّ محتوى جديد، إلّا أنّ إرثه واستمرارية مشاهدته من العوامل التي عزّزت موقعه. إحصائيّاً، لم يعد "فريندز" المسلسل الأكثر شعبية مع ظهور منافسين مثل "هاو آي ميت يور ماذر"، "غريز أناتومي"، "سترانجر ثينغز"، "غيم أوف ثرونز"، "إيميلي إن باريس"، وهي مسلسلات دخلت دائرة الضوء في العقود والسنوات الأخيرة. ومع ذلك، يحتفظ "فريندز" بحضور قوي دائم. فقد أصبح ملازماً للثقافة الأميركية، وتعريفاً لمصطلح "العرض المريح" (comfort show)، أي واحد من المسلسلات التي يشاهدها الناس مراراً وتكراراً لأنها تمنحهم شعوراً بالراحة والاطمئنان، والتي غالباً ما تتمتّع بجوٍّ خالٍ من التوتّر أو التعقيد، ممّا يجعلها مثالية للمشاهدة في أوقات الفراغ أو عندما يحتاج الشخص إلى استراحة ذهنية.
 
 
جزء من عامل الجذب المستمرّ يعود إلى بنية المسلسل والحبكة التي لا تتطلّب التزاماً شديداً من قِبَل المُشاهد، إذ تسهل مشاهدة "فريندز" بشكل متقطّع أو متواصل، من دون الحاجة إلى متابعة أحداث معقّدة وتطوّرات بحاجة لتحليل، ممّا يجعله مثاليّاً في عصر السرعة وتعدّد المهام.

كيمياء ودفء الأمكنة
ثمّة عناصر أساسية تساهم في حبّ الجمهور لـ"فريندز". نجح طاقم العمل المكوّن من جينيفر أنيستون (رايتشل)، كورتني كوكس (مونيكا)، ليزا كودرو (فيبي)، مات لوبلانك (جوي)، الراحل ماثيو بيري (تشاندلر)، وديفيد شويمر (روس) في إظهار كيمياء فريدة على الشاشة. مشاعر الصداقة كانت قويّة وحقيقية، انعكست على حياتهم الشخصية وتخطّت الكاميرا حتّى شعر بها المشاهدون. الشخصيات المقنعة والمواقف الطريفة والعفويّة أبقت المشاهدين متعلقّين بالمسلسل على مدار عشر مواسم، وانعكست على الثقافة من خلال إنشاء مقاهٍ مستوحاة من المقهى الشهير الذي يجتمع فيه الأصدقاء الستّة، وتذكارات خاصة بالمسلسل، من ألعاب وفاتر تلوين إلى ملابس وأكواب وقطع أثاث، حتّى وصل الأمر بشركات أغذية إلى ابتكار أطعمة وأطباق احتفاءً بالمسلسل أو استغلالاً لشعبيّته.
 
 
عامل آخر هو الثبات في هيكل المسلسل. الأمكنة بسيطة ومألوفة ويمكن اختصارها بمقهى "سنترال بيرك" والأريكة البرتقالية التي باتت رمزاً للمسلسل، وشقّة مونيكا التي تشهد التحوّلات. الأماكن الدافئة والبسيطة تخلق شعوراً بالراحة لدى الجمهور وانتماءً إلى حيّز مكانيّ يعجّ بالتفاصيل، حيث كلّ عنصر وكلّ غرض له قصّة ومبرّر، ومشاهدة "فريندز" اليوم مشحونة بتيّارٍ عالٍ من النوستالجيا إلى زمن غابر، بمجرّد أن تقع العين على برجَي مركز التجارة العالمية، والهواتف البيضاء ذات الأحجام الضخمة، وجهاز كمبيوتر "كومباك كونتورا" المحمول و"تسريحة رايتشل غرين" التي باتت تسريحة شعر أيقونية دفعت مراهقات نيويورك إلى تبنّيها.

لماذا يجذب "فريندز" الأجيال الجديدة؟
الكوميديا، الصداقة، الحبّ، والصورة الطموحة للحياة في المدينة: مواضيع ملازمة للمجتمعات والحقبات كافّة، وخلطة مضمونة لعملٍ يبقى في الذاكرة ولا يحدّه حيّز زمنيّ. كما المفاهيم الأساسية التي يطرحها المسلسل والصراعات التي تواجهها الشخصيات، مثل البحث عن معنى للحياة الضبابية وعلاقات ذات مغزى، والتنقّل في مسارات مهنيّة غير مضمونة، والتوازن بين الصداقات، تبقى آنيّة في 2024، تماماً كما كانت في التسعينيات ومطلع القرن الحادي والعشرين. وقد ساهم انتشار مشاهد "فريندز" على منصات مثل "إنستغرام" و"تيك توك" في تعزيز شعبيته بين الجيل الجديد.
 
 
في المقابل، ينتقد بعض الجمهور من "الجيل زد" المسلسل لقلّة تنوّعه وبعض النكات التي عفى عليها الزمن. كما أنّ الملياردير إيلون ماسك عبّر غير مرّة عن عدم إعجابه بـ"فريندز" واصفاً إيّاه بـ"المملّ". لكن عدداً كبيراً من الشباب يبدو أنّهم يتقبّلون "فريندز" على ما هو عليه: مسلسل أُنتج لزمنه، ويحمل فكاهة وروحاً شبابيّة لا تزال يجذب الجماهير.
 
لماذا لا نتوقّف عن إعادة المشاهدة؟
حلقة لمّ الشمل الخاصة التي عُرضت على HBO Max في عام 2021، في خضمّ جائحة كوفيد-19، وفيما أنظمة العالم الصحية والاقتصادية والثقافية تتداعى، أثبتت أنّ تعلّق الجمهور بالمسلسل لا يزال قويّاً. قدّمت الحلقة نظرة جديدة حول الأبطال ولحظات من خلف الكواليس، ووفق مزوّد تحليلات التلفزيون TVision، شاهد الحلقة نحو 29% من الأسر الأميركية التي تشترك في خدمات البث في 27 أيار (مايو) 2021. ووفقاً لشركة التحليلات Antenna، فإنّ الحلقة ساهمت في زيادة الاشتراكات بـHBO Max في أول عطلة نهاية أسبوع في الولايات المتحدة، أكثر من أيّ من أفلام "وارنر براذرز". وفي المملكة المتحدة، أصبحت الحلقة الأكثر مشاهدة في تاريخ قناة Sky One، حيث تابعتها 5.3 مليون مشاهد.

في عام 2024، جزء من سبب استمرار المسلسل في الجاذبية يعود إلى عامل الحنين. مشاهدة "فريندز" تشبه العودة إلى روتين مألوف، مثل الاجتماع مع أصدقاء قدامى. بالنسبة لجيل الألفية الذي نشأ معه، يمثل المسلسل تذكيراً بالأوقات البسيطة. وبالنسبة للأجيال الشابة، فهو عرض خفيف وممتع وسط المحتوى الثقيل الذي يهيمن على التلفاز الحديث ومواقع التواصل الاجتماعي ومنصّات البثّ.

صحيح أنّ ثلاثة عقود مرّت على مسلسل "فريندز"، غير أنّ عامل الزمن لم يفقد تأثيره. مزيج من الشخصيات القابلة للتعاطف، والفكاهة الخالدة، والمواضيع العالمية يجعله مناسباً لكلّ زمان وكلّ الأعمار. ومع استمرار توافره على منصات البث، وانتشاره على وسائل التواصل الاجتماعي، من الواضح أن "فريندز" ليس مجرّد ذكرى من التسعينيات، بل هو حجر زاوية في تاريخ التلفزيون سيخافظ على مكانته لعقود آتية. حتى مع تغير اتجاهات الإنتاج والبثّ، يبقى "فريندز" ثابتاً في الثقافة الشعبية، شاهداً على قوة الكوميديا البسيطة التي ترتكز على شخصيات غير متكلّفة يسهل تصديقها وأحداث بسيطة بواقعيّتها.
الكلمات الدالة

اقرأ في النهار Premium