تجاوزت وسائل التواصل الاجتماعي دورها كأداة اتصال فحسب؛ أصبحت مصدراً قوياً للشباب والمواهب والفنانين من أجل عرض مواهبهم، رواية قصصهم حتى لو كانت شخصية وفاضحة.
عملت هذه الوسائل، وعلى عكس قنوات التسويق التقليدية، برامج المواهب، برامج المنوعات، وتلفزيون الواقع الذي صنع نجومه من خلال التصويت من قبل جمهور معظمه من المراهقين، على تسوية ساحة المنافسة، والتواصل المباشر مع المعجبين، ما مكّن كثيرين من الوصول إلى شريحة واسعة من الجمهور.
وهذا ما لم يكن متاحاً قبل عقدين من الزمن -عربياً- لكثير من مشاهير الغناء، والذي كان يتطلّب كفاحاً طويلاً وجهداً جباراً واعترافاً بموهبتهم التي تعتمد على أصواتهم فقط.
لا يقتصر التأثير على الفنانين المشاهير المكرّسين ممن استفادوا من ثورة منصات التواصل فحسب؛ بل أصبحت المواهب الناشئة اليوم قادرة على الوصول إلى مسرح عالمي -عبر فضاء ممتد لا متناهٍ- في متناول أيديها، ما يسمح لها بتجاوز البوابات التقليدية والوصول إلى جمهور متنوع.
"بالعة فيروز"
يمكن النظر إلى "إيجابيات الانتشار" المتحقق للفنان عبر "السوشيل ميديا" بمنطق موازٍ كـ"نقمة" و"فوضى عارمة" تغذيها رغبات وذوق جيل متبدّل، تحكمه السرعة وغريزة "الترند" كمقياس وحيد لا شريك له.
يفقد "جيل السوشيل ميديا" قيمة الإنصات والمتعة، تحكمه الصورة التي تحرك غرائزه بالدرجة الأولى، أو "تقليد ما هو رائج" فحسب؛ ما ساهم برفع عدد كبير من فناني "الكراجات" -المصطلح الدارج في سوريا-، وأغاني "المهرجانات" في مصر. فغابت القيمة الفنية وجودة الأداء لحساب "جماهيرية شعبوية" سرعان ما تنطفئ.
تسير كارلا شمعون (26 عاماً) المؤثرة عبر منصة "إنستغرام"، والفنانة الصاعدة المعروفة بأدائها لأغاني الجاز والطرب العربي، بخفة وسعادة نحو سيارتها في أحد "كراجات" السيارات، يستوقفها أحد الأشخاص "مصادفةً"، فتلتفت مستغربةً ليطلب إليها: "شي لفيروز"، لتصدح بخامة صوتها الجميلة والجذابة -فعلاً- ولكن بكثير من التكلّف والاستعراض، مؤديةً مقطعاً من أغنية "قديش كان في ناس" الشهيرة.
ينتشر المقطع كـ"ترند" عبر مواقع التواصل الاجتماعي كما النار في الهشيم، ليثير جدلاً بين "نقاد الفن الفسابكة"، حول أهلية صوتها وحدّته وإمكانياته الكبيرة.
يصل الحدّ لدى بعض المأخوذين به -إلى درجة "البلاهة" في نظر الكثيرين- بأنها "ابتلعت صوت فيروز"، أو "بالعة فيروز" السبب الأساسي في رواج مقطع كارلا شمعون هو "التشابه المفترض" المترافق بظهورها البسيط والعفوي الذي جذب الكثيرين، إضافةً لصوتها "الخارق" بحسب وصف بعضهم.
يُعتبر هذا الاصطلاح السمج والقبيح مبالغاً فيه بالنسبة لآخرين- مسبباً لهم ما يشبه الصداع اليومي- يرون أن خامة صوت شمعون -رغم جماله- لا يرقى لأداء السيدة فيروز، الذي يتسمّ بالقوة -دون صراخ- والشفافية اللامتناهية التي لا تفسدها الحدّة المزعجة، والإحساس العالي الذي يحملنا نحو عالم آخر، وهو ما يغيب عن أداء شمعون. يعزو آخرون أن سبب "لمعان صوت شمعون" هو الصدى الذي يحدثه الفراغ، كونها كانت تغني في مرآب للسيارات.
مرجعية فيروز
يبقى المؤكّد أن "الشهرة السريعة" التي حصدها المقطع ومغنيته أسوةً بكثير من "الترندات الرائجة" عبر "السوشيل ميديا" – قصيرة العمر وسريعة النسيان- حققه "التفاعل الأعمى" لرواد المنصات كونها اتكأت كغيرها من الفنانين/ات من بينهم السورية فايا يونان وسواها، على إرث فني حاضر أبداً لسيدة صباحاتنا الدائمة، و"سفيرتنا إلى النجوم" وواحدة من عمالقة الغناء العربي، كمرجعية ثابتة لأي موهبة صاعدة تحاول أن تجد لنفسها مكاناً في الساحة الفنية، وأغنيةٍ خلّدها صوت فيروز "القادم من السماء" في وجداننا جميعاً.
لا يعي "جيل السوشيل ميديا" -بالأغلب- قيمة فيروز سوى كمتلازمة غنائية لـ"قهوة الصباح"، وليس كقيمة ثقافية أرّخت موسيقياً ووجدانياً لعلاقاتنا العاطفية، وذاكرتنا الجمعية، وانتمائنا لفكرة الحب والوطن والأرض بقدر ما هي "فرض يومي" - مُمل بالنسبة إلى البعض- كرّسته بنيّةٍ حسنة الإذاعات العربية عبر عقود، وهو ما نهجت عليه الفضائيات في صباحاتها لاحقاً.
جاء "يوتيوب" ليجمع بين صوت السيدة فيروز وفيديوهات لمدن عربية وأوروبية، لتكون شكلاً من أشكال الحنين لمطارح الطفولة، كونها جزءاً أصيلاً من عبق الياسمين الدمشقي، وشرفات بيروت التي تعانق البحر وغيرها من المدن التي شكّلت فيروز ذاكرتها الحية دائماً.
لا تزال فيروز اليوم رغم طابع العلاقة الشكلي والمبرمج إعلامياً بينها وبين جيل اليوم، تتمتع بقاعدة جماهيرية كبيرة، وحضور لافت وسط موجة الرداءة الحاكمة، وأغاني "الزمر والهشك بشك"، فلا يمرّ ذكرى ميلادها السنوي- على سبيل المثل لا الحصر- دون أن تشتعل مواقع التواصل الاجتماعي بتتويج فيروز ملكةً على عرش الموسيقى العربية.
فكرة صغيرة
خرجت شمعون بالأمس، الخميس، عبر برنامج "صباح العربية" متحدثة عن الانتشار الأخير للفيديو الذي وصلت مشاهداته لأكثر من 30 مليوناً، رغم أنها انطلقت من فضاء مسرحها "الكراج" كتجربة غير اعتيادية في العالم العربي، وهو ما لم تحققه رغم ظهورها على "أكبر مسارح العالم" على حدّ وصفها.
عبرّت شمعون بعفوية عن سعادتها إثر نجاح "فكرتها الصغيرة"، وأن الشهرة التي حققتها كانت بمثابة "مفاجأة غير متوقعة"، جعلت كثيرين يحاولون استعادة أرشيفها الغنائي والتعرف على مشوارها الفني. وأن الفيديو كان بهدف الردّ على بعض المشككين بموهبتها وبصوتها ممن ادّعوا أنها تعتمد "تقينات الذكاء الاصطناعي" خلال تجربتها أداء خامات صوت مختلفة في فيديوهات سابقة لها.
تبدو شمعون أكثر اتزاناً وأقل اكتراثاً بـ"الضجة الفيسبوكية" حول ظهورها الأخير قياساً بالمتفاعلين عبر "السوشيل ميديا"، غير آبهةٍ بالمقارنات- غير المنطقية- بينها وبين "صوت السيدة فيروز"، وتركز شمعون في مقابلتها على الجانب التقني في تجربتها، من خلال أداء خامات صوت مختلفة لكبار الفنانين العرب ومن بينهم السيدة فيروز، وأنها لا تتقصّد "تقليد" تلك الأصوات الخالدة بغرض إثارة الجدل حولها بقدر ما تعتبره تمريناً طبيعياً لصوتها، ومحاولة اكتشاف لمقدراتها الغنائية.