يظل الوجدان المصري والعربي متطلعاً دائماً إلى المدهش والمبتكر في الشعر، فهو فن العربية الأول والأقرب إلى الذائقة. ولا تكاد تخلو مرحلة زمنية في مصر من شعرائها المُجيدين المجدّدين، الذين ارتبطوا بأحداثها، وحفظوا ذاكرتها بقصائدهم.
هكذا، عرفت مصر أجيال التطوير والحداثة، مع ترسّخ الشعر الحرّ، التفعيلي، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي. واقترنت القصيدة وقتها في معظم تجلّياتها بالقضايا الوطنية الكبرى، والقومية العربية، وواكبت الآمال والأحلام، وشهدت تطورات الصراع العربي الإسرائيلي.
ثمّ جاءت حركة شعراء السبعينات، التي حررت القصيدة من تشابكاتها السياسية وأعبائها الوظيفية وصوتياتها المنبرية. ورسمت القصيدة مرحلتها أيضاً بتشظياتها وانفلاتها، لكنها لم تسلم من الاستغراق في المجازات والالتواءات البيانية، ما أصابها تدريجياً بالاغتراب والنخبوية، والتشرنق حول ذاتها.
منذ مطلع التسعينات، وانتشار أجيال قصيدة النثر، اتجهت القصيدة مرة أخرى إلى المتلقي، ولكنه المتلقي الفرد في هذه المرة. واشتبكت النصوص الجديدة أكثر مع الواقع المعيش، والتفاصيل اليومية، البسيطة والقريبة والصغيرة، واقتربت لغتها من السرد، وبصرياتها الحركية من السينما.
الساحة متّسعة
هل تعاني القصيدة تراجعاً في اللحظة الراهنة؟ وهل صار المشهد المصري خاوياً كما يردد هؤلاء الذين يرون أن قصيدة النثر قد أثقلها التكلّس والتشابه والاستنساخ والدوران المتكرر في فراغات المجاني والاعتيادي؟ وكيف تستعيد قصيدة الشباب عافيتها وجمهورها متسلحة بروح مغايرة وأبجديات عصرية، منها النشر الرقمي، والإنترنت، وصفحات التواصل الاجتماعي؟
هذه الأسئلة، وغيرها، فرضت حضورها بقوة على المشهد، توازياً مع انعقاد مؤتمر قصيدة النثر المصرية في دورته الثامنة، الذي اختتم قبل أيام في مقرّ صحيفة الدستور في القاهرة (19-21 سبتمبر/ أيلول)، وهو مؤتمر أهلي، شعاره "في الإبداع متسع للجميع"، وغايته الانحياز إلى الجمال، ورفض الوصاية.
تيارات حديثة
تحمل لجنة المؤتمر أسماء مجموعة من المبدعين والنقّاد المؤمنين بتجارب الشباب، وهم كل من المنسق العام عادل جلال، وأعضاء اللجنة: هناء نصير، وسوزان عبد العال، وإبراهيم جمال الدين، وعمر شهريار.
يتيح المؤتمر الفرصة في أمسياته الشعرية ومناقشاته لكثير من الشعراء الشباب، من الذكور والإناث، من أحدث تيارات قصيدة النثر الحالية، الذين ربما يلاقون تهميشاً وعدم اكتراث من مؤسسة الثقافة الرسمية، وفعّالياتها المحافظة.
كيف تبدو القصيدة الجديدة، التي يراهن عليها شعراء قصيدة النثر الشباب في مصر، ممن انطلقت نصوصهم في المؤتمر، وتضمنتها "أنطولوجيا قصيدة النثر المصرية"؟ وبماذا يعد هؤلاء الشعراء الشباب؟ وإلى أي مدى تصل أصواتهم الجديدة إلى المتلقي المتعطش إلى حيوية الشعر ووهجه؟
التفكيك والسخرية
تتعدد أسماء هؤلاء الشاعرات والشعراء من الأجيال الشابة، وهم ينتمون إلى المحافظات المصرية المختلفة، في ظاهرة طيبة تعكس التنوع المكاني المنشود. ومن بينهم: نهال النجار، وأحمد سلامة الرشيدي، وإيمان جبل، وبهاء جمعة، ومحمد غازي النجار، وغيرهم.
نهال النجار، شاعرة وقاصة وتشكيلية من قنا في صعيد مصر، صدر لها عمل بعنوان "سريالية الملامح"، وتعبّر عن ذاتها بنص شعري جديد عنوانه "أنثى تعيد هندسة الأشياء".
تطرح نهال النجار صوتها الشعري الخاص بتفكيك النص والذات والعالم معاً في صور ومشاهد غرائبية وسريالية، مع تطلّع إلى التمرد والانفلات، ونزعة إلى السخرية من الثوابت، خصوصاً ما يتعلق بالنظرة النمطية إلى الأنثى في مجتمع شرقي.
تهزأ نهال النجار في نصها الجديد من دفتر كل فيلسوف يدّعي الحكمة في وجود بائس بلا عقل، قائلة "سأصنع من الرماد وقوداً لعقول النساء/ أعرف أن عقلي أشهى في حفلات الشواء/ سأقدّمه في النهار/ هكذا أقدّم للعالم طبقاً ناعماً لعقل امرأة".
الترميز والإشارة
عند سؤالها عن رؤيتها الخاصة لأبرز الظواهر والانزياحات والرهانات الجديدة التي تخوضها قصيدة النثر، والتي يكتبها شعراء اللحظة الراهنة في مصر، أوضحت نهال النجار لـ"النهار" أن قصيدة النثر تمكّنت من فرض نفسها على الساحة الأدبية في العموم، ووسط جمهور القرّاء المصريين على وجه الخصوص، لمراوغتها ولجوئها إلى الترميز والإشارة.
والأهم أنها "نبتت من رحم الواقع المعيش، فهي الحداثة الشعرية في أقصى صورها، لا تنتمي لشكل، ولا يحكمها قالب، وتشبه كثيراً بنية الإنسان الحديث، مع الحفاظ على أجمل مكنونات هذا الإنسان، ألا وهي الشاعرية".
ترى الشاعرة الشابة أيضاً أن السوشيل ميديا أو وسائل التواصل الاجتماعي قد لعبت دوراً عظيماً في بناء علاقات تفاعلية بين الشعراء بعضهم ببعض، ومع القرّاء، إذ "منحت مجتمع المثقفين مزيداً من حرية الاختيار، والتفاعل المتبادل".
في هذا السياق، تضيف نهال النجار: "في استطاعتك القراءة لمن ترغب وقت ما ترغب، على عكس شعراء ما قبل التكنولوجيا، إذ كانت القراءة تقتصر على ما يسهل اقتناؤه وحسب، الأمر الذي ساعد على تطور قصيدة النثر وتناميها السريع الذي يتناسب تماماً مع سرعة العصر".
وتؤكد نهال النجار اهتمام قصيدة النثر الجديدة بالمتلقي، بل بالجمهور العام، وذلك "إلى المدى الذي جعلها داخل كل منزل. ثمة ربات بيوت يقرأن قصيدة النثر، تلاميذ في الصفوف المتوسطة، الباعة، شباب غير مهتم بالعملية الأدبية بوجه عام، لكنه متابع جيد لقصائد النثر. هذا الغموض الدلالي، وقدرتها على المراوغة جعلها في مصاف اختيارات الجميع".
تجارب ملهمة
من التجارب الشعرية الجديدة الأخرى الملهمة، نصوص الشاعر أحمد سلامة الرشيدي، الذي صدر له ديوان بعنوان "الرجال الذين حمّلوني وصيتهم"، والشاعر محمد غازي النجار الذي فاز مخطوط ديوانه "إنها تتراءى لي" في مسابقة المجلس الأعلى للثقافة.
يرسم أحمد سلامة الرشيدي ملامح بصمته بكتابة قصيدة النثر المشتبكة في آفاقها وتأملاتها اللحظية مع مصائر البشر في عالم القسوة والتلاشي المريع "أيتها الحيتان التي تسير، والأصداف التي تغني، والرصاص الذي يصطاد الرجال كالعصافير/ أينما ذهبتُ، وفتحت لي المدن ساقيها، يلاحقني الغرق".
وتأتي قصيدة النثر لدى محمد غازي النجار مشحونة بحمولات الصور المحتشدة، المستقاة من القرية، حيث يقيم بمحافظة كفر الشيخ. ولكن الذي يرسم الصور هو التخييل المبتكر، وليس كاميرا الفوتوغرافيا كالمألوف في قصيدة النثر "عمود نور، مصلوب علىٰ تقاطعٍ، والليل المستبدّ بزرقته يعذبه، فيضيء".
الفرز ودور النقد
من جهتها، تشير الكاتبة هناء نصير، عضوة اللجنة العليا المنظمة لمؤتمر قصيدة النثر المصرية، إلى أن شعر الشباب على رأس اهتمامات لجنة المؤتمر ومنسقه العام، لمواكبة الإبداع المتدفق "نحاول تسليط الضوء على شعراء جدد، بعضهم غير مترسخ لدى جمهور الشعر، كما ننقب عن وجوه نقدية شابة".
وتوضح هناء نصير لـ"النهار" أن تطبيقات التواصل الاجتماعي، خصوصاً فايسبوك، قد "ساعدت كثيراً في تشجيع الشباب المحبّين للكتابة على إخراج مكنوناتهم في هيئة قصائد نثر. ثم ساعدت في تلقي المتابعين لهذه النصوص، وتعريفهم بتطورات الحركة الشعرية".
وترى الكاتبة المصرية أنه مع الوقت "سوف تحدث عملية فرز للأكثر موهبة، ولكن من الضروري الحرص على مواكبة ذلك الإبداع نقدياً".