تقوم رواية "كافكا في طنجة" (الهيئة المصرية العامة للكتاب، غلاف أحمد اللباد) للمغربي محمد سعيد احجيوج، على لعبة سردية قوامها رواية سيرية يكتبها "جواد الإدريسي" ويقرّر نشرها باسم مستعار، ثم يكتشف أن الاسم الذي اختاره هو لكاتب له رواية منشورة عنوانها "ليل طنجة". وهذا الكاتب هو نفسه محمد سعيد احجيوج.
أما "جواد الإدريسي"، فهو بطل هذه الرواية وكاتبها الافتراضي في الوقت نفسه.
نشر احجيوج هذه الرواية في 2019 ليعيد تنقيحها ونشرها ضمن "سلسلة الإبداع العربي"، بطبعة جديدة منقحة في أواخر 2023. وفي هذا العمل، ثمة تناص مع رواية فرانز كافكا "التحول" التي كُتبت عام 1915، وترجمها منير البعلبكي إلى العربية عام 1991.
يعطي احجيوج فصول روايته القصيرة (88 صفحة) عناوين أعمال لمؤلفين آخرين، فالفصل الأول مثلاً عنوانه "البطل ذو الألف وجه"، لجوزيف كامبل، ويبدأ بسرد راوٍ عليم لتفاصيل كابوس عاشه "الإدريسي" أثناء نومه، ليكتشف عند استيقاظه أن تلك التفاصيل إنما تحاكي تحوله إلى حيوان مخيف.
الفصل الثاني يحمل عنوان "يوتوبيا"، وهو عنوان رواية للكاتب المصري الراحل أحمد خالد توفيق، ويستهله السارد بالقول: "لا بدّ من الاعتراف: هذه الخرافة التي أحكيها لكم، أو الرواية كما تسمّونها في هذا العصر، تشبه، بشكل أو آخر، الحكاية التي أوحيتُ بها إلى فرانز كافكا منذ أزيد من مئة عام".
وهنا يبدو ذلك السارد وكأنه آتٍ من عصر الحكي الشفاهي على طريقة رواة حكايات "ألف ليلة وليلة"، والسير الشعبية، فضلاً عن أنه يصرّح بأن كافكا إنما استلهم رواية "التحول" الغرائبية من مثل تلك الحكايات والسير، الزاخرة بعوالم اللامعقول والعبثي والكابوسي، والتي لطالما ألهمت مبدعي الغرب منذ أن وصلتْ إليه مترجمةً إلى لغاته الأساسية، ومنها الألمانية التي كتب كافكا التشيكي بها معظم إبداعه الأدبي.
بين سامسا والإدريسي
بطل رواية كافكا، غريغور سامسا، مندوب مبيعات، أعزب، يعيل والده ووالدته وأخته، "الغريب هو أنه لدى العائلة طباخة وخادمة رغم أنها أسرة فقيرة، أو هي عائلة في خضم أزمة مادية خانقة، كما يفترض" يقول السارد، قبل أن يعلق: "هذه الجزئية لم أسردها على كافكا. هو أضافها من عنده"، إمعانًا في الإيهام بأنه هو من أوحى إلى ذلك الكاتب الشهير بتلك "الحكاية".
أما بطل حكاية "الإدريسي" التي "يرويها" السارد الخارجي نفسه، فهو متزوج، ويشتغل معلمًا من الصباح إلى ما بعد الظهر، وبائع خضروات وفواكه في المساء؛ "خلال الأيام التي لا يعود فيها منهكًا خائر البدن من المدرسة" (ص 10)، ويدفعه شغفه بالقراءة إلى الحلم بأن يصبح ذات يوم ناقدًا أدبيًا.
وهو يشترك مع بطل رواية كافكا في أنه يعيش هو وزوجته وطفلهما الرضيع مع والده وأمه وأخته. وقع لبطل رواية احجيوج التحول الذي هو رمزي أكثر منه واقعيًا، ليجد نفسه على هيئة أشبه بهيئة القرد.
تعيش أسرة "الإدريسي" في طنجة، ويحمل الابن وحده عبء الإنفاق عليها. ينحدر الأب؛ "الذي لا يصرف الدرهم إلّا في مكانه الصحيح ووقته الأنسب"، من إحدى قبائل الريف على تخوم مدينة الحسيمة، وإضافة إلى البخل أو الحرص، فإنه يتسمّ بالعناد كشأن أهل مسقط رأسه: "العناد هناك يرضعونه مع حليب الأم"، كما يتصف بالقسوة الشديدة خصوصاً في معاملته لابنه منذ أن كان طفلًا.
تحولات طنجة
وهكذا تشغل سيرة ذلك الأب المتماهية نوعًا مع حكاية والد بطل رواية "الخبز الحافي" (يحمل الفصل التاسع من رواية احجيوج عنوان رواية محمد شكري هذه)، حيزًا ملحوظًا في هذا العمل، جنباً إلى جنب مع سيرة بطله ومأساة تحوله، وفي الخلفية تبرز سيرة مدينة طنجة والتحولات التي طرأت عليها في السنوات الأخيرة، في سياق متصل بأحوال المغرب ومحيطه العربي، خصوصًا في ظل تصاعد التطرّف الديني والعنف الذي تمارسه جماعات الإسلام السياسي.
في الليلة التي سبقت تحوله، كان يقرأ كتابًا على غلافه صورة كافكا، وفي الصباح دقَّق النظر في الصورة ذاتها فوجد أنها تشبه رجلًا رآه في الليلة ذاتها: "بدا له مألوفًا جدًا، إنه يشبه كافكا. بل هو فرانز كافكا ذاته" (ص21).
تخلَّت عنه زوجته، لكنها في الحقيقة، لم تتخلّ عنه اليوم، بل قبل اليوم بكثير. ربما منذ تشكَّل جنين ابنتها في بطنها". أمه أصرَّت على أن ما حدث له هو نتيجة سحر أسود. أبوه استسلم لشعوره بالعجز إزاء تلك المصيبة التي حلّت على الأسرة. الأخت، أجبرها والدها على ترك الدراسة فعملت نادلة في مقهى، وواصلت كتابة القصص، وفي بالها أن تتاح لها يومًا فرصة العودة مجددًا للدراسة والاشتراك في ورشة إبداعية لكتابة الرواية.
الواقعي والكابوسي
يمنح احجيوج مساحة معتبرة لشخصية الأخت كي تسرد ما حدث لشقيقها في صورة يوميات، تذكر في إحداها أنها قرأت قصة "التحول" التي أخذتها من غرفة أخيها، فتقول: "يا إلهي كم هي متشابهة مع ما يحدث الآن، وكم أخاف أن يتشابها في النهاية ذاتها".
وفي موضع آخر تقول إنها هي التي اقترحت على أبيها أن يسمح لها بتأجير إحدى غرف شقتهم، "لتحقيق دخل إضافي للأسرة"، مشيرة إلى أنها استوحت تلك الفكرة "من قصة كافكا".
الفصل الثامن عنوانه "ألف ليلة وليلة"، ويسرده الراوي الخارجي على طريقة تلك الحكايات الشهيرة، بدءاً من الذروة: "يُحكى أن شخصًا طيبًا اسمه جواد، تخلَّى عن أحلامه وطموحاته كلها ليعتني بأسرته، استيقظ، ذات صباح، ليجد نفسه انمسخ وحشًا منبوذًا مدنسًا كأن الشياطين تسكنه" (ص 54).
أمضى جواد، المتحول، ثلاثة أشهر حبيس غرفته، وسنعلم من السارد العليم أنه كان يخرج منها ليلاً، من دون وعي منه، وأنه قبل التحول بيومين علم من مختبر التحليلات الطبية أنه عقيم، فقطع الشك باليقين، وليته ما فعل، فقد "بقي الخبر يسري كالسمّ في عروقه"، وفي الأخير "أغمض عينيه، ولم يفتحهما بعد ذلك".
وجده أبوه ميتًا، فتخلّص من الجثة "التي أنتنت بسرعة"، ثم أخبر الأم التي "نشجت بصمت"، فيما باغتت البسمة محيّا الأخت "فطردتها سريعًا" (ص 77)، ولاحقًا كتبت في يومياتها أن موته سواء كان جراء الكمد أو الانتحار، فهو أفضل له "ولنا جميعًا".
هنا تنتهي الرواية بفصولها الـ 13، ليتبعها ملحق عنوانه "تحولات جواد الإدريسي"، يعرف القارئ منه أن ما سبقه كان مجرد رواية كتبها الإدريسي ووقَّعها باسم محمد سعيد احجيوج، وهو لا يعلم أن هناك كاتبًا مغربيًا يحمل الاسم نفسه. وسيعرف القارئ على نحو واقعي هذه المرّة، أن تحول الإدريسي جاء عقب اعتراف أخته المراهقة بأنها حامل، وأن زميلها الذي حملت منه تخلّى عنها واختفى، وفي الخلفية "مجتمع قفز من حياة محافظة إلى انفتاح كامل من دون أي استعداد مسبق".