في خضم الحرب على فيتنام، كتب الفيلسوف الأميركي نعوم تشومسكي مقالة عنونها بـ"مسؤولية المثقفين"، أورد خلالها أن المثقفين يقع على عاتقهم واجب أخلاقي يحتم استخدام مواقعهم لنشر الحقائق، منتقداً بضراوة موقف المثقف المدافع عن سياسة أميركا في فيتنام، ومادحاً المثقف المستقل القادر على قول الحقيقة.
إذاً، ثمة مسؤولية تقع على المثقفين في تعرية الأكاذيب، وهذا ما فعله الفنان التشكيلي محمد عبله حين قرر ردّ وسام غوته الذي ناله في 2022، احتجاجاً على الموقف الرسمي الألماني تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة.
وسام غوته هو من أرفع أوسمة الشرف في ألمانيا، وأهم جائزة في سياستها الثقافية الخارجية، وكان محمد عبلة أول فنان عربي يحصل عليه، تقديراً لأعماله الفنية.
عن دور الفنان في القضايا الإنسانية وجدوى الفن في عالم الحروب والنزاعات وعن أعماله وتجربته، تحدث الفنان محمد عبلة لـ"النهار"، فكان هذا الحوار:
* ما هي الاعتبارات التي وضعتها عند اتخاذ قرار رد وسام "غوته"؟
كنت سعيداً جداً أنني حصلت على الوسام، كأول فنان عربي يتوّج به، ولكن عند اندلاع الحرب على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تلاشت تلك الاعتقادات، وكانت ألمانيا في صدارة الدول الداعمة لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، وساندتها في كل مواقفها وسرديتها، ومدتها بمختلف أنواع السلاح.
انتابني حينها وخز الضمير، فكيف لي أن أكون سعيداً بهذا التكريم؟ تناقشت مع نفسي كثيراً ومع زوجتي وابنتي حول هذا القرار، لإدراكي تبعاته، فتساءلت: هل أنا مستعد لتحمل هذه التبعات أم لا؟ لكنني اخترت التنازل عنه.
* كيف ترى حدود دور المثقف أو الفنان تجاه القضايا الإنسانية أو السياسية؟ هل هو التزام وجوبي؟
لا يمكن صناعة فن من دون اتخاذ مواقف، وإدراك الفنان لدوره، فالفن له التزامات وتبعات، والدور المجتمعي والإنساني للفنان يدفعه لاتخاذ مواقف والتعبير عنها، وهذا أساسه الفن لا المواقف، فالفنان يهتم بتلك القضايا من أجل الفن، فحياته قوامها الفن، وكل اهتماماته والتزاماته تكون نابعة من موقف فني.
نعيش في عالم يموج بالصراعات، متخم بالحروب والخراب والضحايا... وهو ما يطرح التساؤل حول جدوى الفن في زمن الحرب وسفك الدماء؟
لم يتوقف العالم عن إنتاج الحروب، ولم يتوقف عن إنتاج الفن أيضاً، فالقسوة والحروب يقابلهما الجمال، فهما يسيران بالتوازي، كما أن الحياة لا تتوقف، والفنانون هم من يوازنون العالم والحياة، فيصنعون الفن ليحققوا التوازن مقابل القبح والحرب والقتل.
الفنان يصنع فنه من أعماق روحه معبراً عن وجهة نظره تجاه ما يحدث في العالم، ويقدم إجابات عن أسئلة تراوده داخلياً، فالفنان وهو ينتج فنه، سواء كان أغنية أو شعراً أو لوحة أو أدباً، يجيب عن أسئلة داخلية تلتقي مع تساؤلات أناس آخرين، وربما وقد يجيب عن أسئلتهم أحياناً. الفن يجمع إنساناً بإنسان آخر في أي مكان في العالم، وأي مجموعة بشرية يمكن أن تتفق مع طرحه، وعلينا خلال إنتاج الفن أن نضع نصب أعيننا أن نجعله يخرج من إنسان ليصل إلى إنسان آخر.
أؤمن بأن الفنان يمتلك وعيه الخاص تجاه الحياة، وكفنان، أدرك جيداً أن الشر داخل الإنسان والعالم ككل، وكذلك الخير، وهناك حروب تصنع مشكلات لكنها تحل مشكلات أخرى، وهي جزء من تركيبة الإنسان ما دام مادياً، إذ تندلع الحروب بسبب أشياء مادية مثل الصراع على المياه أو الأرض أو الثروات. وإدراك الفنان لذلك يجعله يعبر، ويخرج تعبيره متوافقاً مع حياة أشخاص آخرين.
كيف عالجت قضية الحروب عبر أعمالك التشكيلية؟
أرسم ما يشغلني، ومن ضمنه موضوع الحروب، والفنان ما دام ينفعل فهو يعبر عن انفعالاته، وأي فنان لا يرى الحروب ولا يستشعر آلام العالم أو ينفعل بها لا يستحق أن يكون فناناً. وتطرقت أعمالي للحروب، وأخيرها معرض "من أجل فلسطين"، ضم مجموعة من اللوحات حملت اسم "الطوفان"، استلهاماً من طوفان الأقصى. ولاقى المعرض تفاعلاً جماهيرياً، لأن الناس مهتمة بالقضية الفلسطينية.
تميزت لوحاتك بأنها تضج بالألوان والحياة، كما لو كانت تخلق حالة من البهجة البديلة للواقع المأسوي الذي نعيشه في العالم العربي... هل تعمدت هذا النهج في أعمالك؟
لابد أن أصنع توازناً في أعمالي، كما أخلق توازناً مع نفسي في البداية، لأنني كفنان أحتاج قدراً من البهجة كي لا أغرق في الحزن؛ لأمتلك القدرة على الإنتاج والإبداع، محاولاً طرح القضايا الكبيرة طرحاً غير منفّر أو كئيباً.