ما إن تصل إلى "سوق ديانا" (وسط القاهرة)، حتى تعتقد أن الزمن قد عاد بك عقوداً إلى الوراء، وانتقلت إلى حقبة تاريخية مختلطة تجمع سنوات القرن العشرين وما بعدها في مكان واحد.
يضم السوق مقتنيات وأنتيكات متنوعة، يعود بعضها إلى العهد الملكي وصولاً إلى التسعينات والألفينات، فتبدو كأنها شاهد على التطور البشري.
على الأرصفة وجوانب الشارع، يفترش الباعة بضاعتهم المختلفة، وإن كانت متشابهة في قِدَمِها. هذا السوق، ينعقد يوم السبت من كل أسبوع، ويبدأ مع تباشير الفجر، ثمّ يلتئم مع غروب الشمس، وقد اكتسب اسمه "ديانا" لأنه يقع في محيط صالة "سينما ديانا" في شارع عماد الدين.
مقتنيات المشاهير.. ودرع باسم رتيبة الحفني
بلهجة صعيدية بادرنا على مدخل السوق عم "عبد الله كركبة" بالتحية، ويبدو أنه اكتسب لقب "كركبة" من مهنته، وجمعه للأشياء المتراكمة في البيوت والتي تسمى في العامية المصرية "كركبة".
يقول كركبة لـ"النهار العربي" إنه يعمل في تجارة الأشياء القديمة منذ أكثر من 25 عاماً، كاشفاً أنهم يحصلون على هذه المقتنيات من المنازل القديمة، فغالباً ما يتخلص منها أصحابها أو الورثة، وهناك آخرون يستغنون عنها من أجل شراء الجديد، أو بسبب السفر والهجرة.
طالعنا ضمن بضاعة عم "كركبة" درع تكريم من تونس يعود لعام 2012 باسم الدكتورة رتيبة الحفني (1931-2013)، وهي مغنية أوبرا مصرية عالمية، وإحدى رائدات الأوبرا والموسيقى في العالم العربي، وأول امرأة تتولى رئاسة دار الأوبرا المصرية، وصاحبة البرنامج التلفزيوني الشهير "الموسيقى العربية". ويبدو أن بعض أغراضها الشخصية قد بيعت، ووصلت إلى كركبة الذي عرض أن يبيعني هذا الدرع بمئة جنيه مصري (نحو دولارين أميركيين) قائلاً "علشان خاطرك بس".
أثار بيع إرث الشخصيات العامة والمفكرين والفنانين، ضمن هذه الأسواق، كثيراً من الجدل، وسط دعوات بضرورة عدم التفريط فيها والحفاظ عليها وإيداعها في أماكن لائقة مثل المتاحف أو المكتبات العامة، وهناك واقعة شهيرة حدثت في عام 2022، إذ ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالغضب والاستنكار بعدما ظهرت بعض مقتنيات الفنان نور الشريف على أرصفة "سوق ديانا"، بينها نياشين وشهادات وجوائز وألبومات عائلية وكتب تحمل إهداءات، بعضها بيع لمصريين وغير مصريين، ومن حسن الحظ أن بعضها وصل إلى يد الناقد السينمائي عصام زكريا، وهو من كشف الواقعة، إذ فؤجئ بعرض مقتنيات الشريف للبيع واستطاع شراء قسم منها.
ولا شكّ بأن السوق يحوي كنوزاً ومقتنيات لا تقدر بثمن ولا يدركها سوى الخبراء والمتخصصين، ففي الغالب يبيع الورثة مقتنيات ذويهم من دون أن يدركوا قيمة ما يمتلكون.
درع تكريم باسم رتيبة الحفني في سوق ديانا
السوشيل ميديا والسوق
ساهمت مواقع التواصل الاجتماعي في ذيوع صيت "سوق ديانا"، وامتلك شهرة لافتة، خلال الفترة الماضية، حتى أنه أصبح تراند على "إنستغرام" و"تيك توك" بسبب تردد صنّاع المحتوى عليه، وتصوير فيديوات عنه، ما جعله مقصداً لفئة أكبر من الجمهور.
صادف "النهار العربي" إسلام عصام، يعمل في التسويق العقاري، خلال جولته في أرجاء السوق، فأوضح أنه تعرّف إلى "سوق ديانا" عبر فيديوات "تيك توك"، فأعجب بمعروضاته، وقرر شراء بعض المقتنيات ومن بينها تلفزيون صغير قديم حجمه نحو 40 سم، وراديو يعود لستينات القرن العشرين، ومع ذلك ما زال يعمل، وهناك المزيد من الأشياء التي اجتذبنتي، سأشتريها كديكور لمنزلي.
ولع بالقديم
يعكس الإقبال على السوق حالة من الولع بكل ما هو قديم، وقد بات بالفعل مقصداً لهواة التحف والأنتيكات، إذ يعد أكبر تجمع لتجار الأشياء القديمة في القاهرة.
تتنوع البضاعة المعروضة لتشمل الطوابع والعملات، والنحاسيات والخشبيات والفضيات والأثاث والأباريق واللوحات والتماثيل والساعات، والآلات الكاتبة، تليفونات قديمة ذات "قرص"، وأوانيَ وملاعق نحاسية وأجهزة الراديو والتلفزيون، وصحفاً وكتباً ومجلات وكاميرات من مختلف الموديلات، بجانب الكثير من المقتنيات الشخصية، إذ صادفنا ألبومات صور عائلية قديمة، وخطابات، وأغراضاً شخصية مثل النظارات وهواتف منزلية ومحمولة مستعملة ومنبهات بموديلات مختلفة، وأحذية وحقائب جلدية بأسعار متفاوتة وفقاً لقيمة كل سلعة وندرتها.
العملات القديمة
يحوي السوق قسماً خاصاً بالعملات القديمة التي تؤرخ لحقب زمنية مختلفة. وخلف طاولة، جلس فتحي، أحد تجار العملات القديمة، وأمامه مجموعات منها، وقال لـ"النهار العربي" نبيعها بأسعار جيدة، ويشتريها أشخاص "غاوية" اقتناء العملات، بعضها يعود تاريخه لأيام الملك فاروق، وهناك عملات أقدم من ذلك".
وأضاف فتحي: "زبائن العملات من كل الفئات، وكل يشتري وفق مقدرته، كلما كانت العملة قديمة كلما حققت سعراً أكبر، ويتحدد السعر وفقاً لندرتها، وتتراوح أسعار العملات في "ديانا" بين 30-1000 جنيه (نحو أقل من دولار وحتى 20 دولاراً)، لكن ثمة عملات نادرة لا يمكن توافرها بسهولة مثل الجنيه الذي يحمل صورة الفلاح أو الجمل، ونادراً ما تتوافر، وقد يصل سعرها إلى (30 ألف جنيه - نحو 600 دولار أميركي)، وبعضها يباع في مزادات عالمية".
الآلة الكاتبة الإنكليزية وكمبيوتر صخر
كان "الغرامافون" أحد أبرز الأنتيكات التي صادفناها في جولتنا، وهو القطعة الوحيدة المتوافرة في السوق. يمتلك مصطفى - أحد تجارالسوق - هذا الغرامافون ويعرضه للبيع بسعر 7000 جنيه مصري (أقل من 150 دولاراً أميركياً)، ويستدعي مصطفى ذاكرته في هذه التجارة متحدثاً لـ"النهار العربي" بقوله: "منذ طفولتي، أعمل في هذه المهنة منذ عام 1980، وعملت في الكثير من أسواقها، وأولها كان "سوق إمبابة"، إذ كان هو الأساس والمنبع لهذه الأسواق، ثم يليه سوق السيدة عائشة ثم ظهر سوق الخميس في المطرية، وسوق الأحد وأم بيومي في شبرا الخيمة، ثم سوق الجمعة في طنطا بمحافظة الغربية (دلتا مصر).
يعرض "مصطفى" مجموعة من الشمعدان المصنوع من النحاس الخالص بزخارف مبهرة، ويكشف أن المقتنيات التي يمكن اعتبارها نادرة في السوق معدودة مثل الغرامافون والآلة الكاتبة الإنكليزية القديمة سوداء اللون غير حديثة، ويضيف: "هناك صعوبة بالغة في إيجادها، فبعضها يعود إلى أعوام الحرب العالمية، وهناك طلب كبير على اقتناء كمبيوتر "صخر"، خصوصاً من الخليجيين، والتليفونات القديمة التي تعود للعهد الملكي. وتلقى شرائط أغاني أم كلثوم وعبد الحليم إقبالاً كبيراً على شرائها حتى من الأجانب، ويحرص بعضهم على اقتنائها لأنها أصبحت من النوادر، ويصنعون منها مكتبة منزلية كنوع من الديكور".
يعرض مصطفى للبيع أيضاً عدداً من أفلام 8 مللي قديمة مصرية وأجنبية تعود لأربعينات القرن الماضي، وبينها أفلام لشارلي شابلن تعمل على ماكينة سينما فقط، إذ يقتني مصطفى في منزله تلك الماكينة.
زبائن السوق
وفقاً لبائعي سوق ديانا، فإنّ مرتادي هذا المكان ليسوا من المصريين فقط، بل يقصدها العرب والأجانب، سواء الهواة أو خبراء وتجار التحف والأنتيكات، ويعد الزبائن العرب من دول الخليج، وخصوصاً السعودية، هم أبرز الزبائن، ولا يشترون عشوائياً بل يبحثون عن الأشياء القيمة ويعرفون ما يريدونه، كما يتوافد عليه بعض الباحثين الأجانب باعتباره قبلة لمحبي الأنتيك والمهتمين بالتاريخ حتى بات نقطة جذب حقيقية في وسط القاهرة.