قبل أيام احتفلت صوفيا لورين بعيد ميلادها التسعين، بحضور وزير الثقافة الإيطالي، حيث أقيم الحفل في صالة سينما في روما، وأعقبه مأدبة عشاء على شرفها، وارتدت أزياء من تصميم صديقها جورجيو أرماني، بينما على الجانب الآخر من الأطلسي أقيم لها معرض استعادي في مركز لينكولن في نيويورك.
فماذا يقول لنا جسدها في لحظتها الآنية؟ يعني أنه إذا حضرت صوفيا لورين (مولودة في أيلول/ سبتمبر 1934)، حضرت مفردات الثقافة الإيطالية كافة: السباغيتي، والسلطة، والنبيذ، والموسيقى، والسعادة، والأصدقاء، والأزياء الأنيقة، والفن، والحب، والضحك.
هذا ما تمثله تاريخياً، مع سلسلة من حسناوات إيطاليا إلى آخر عنقود الجمال الإيطالي مونيكا بيلوتشي.
عجوز جميلة
لنرجع خطوة إلى الوراء، صوفيا أرملة في الثمانين، بعدما فقدت شريك العمر، كان بإمكانها أن تترهبن في دير، أن تعتزل لأنها لم تعد "الحلوة الشهية"، ولأن تجاعيد الشيخوخة محفورة بعمق في رقبتها وعلى وجهها. لماذا لم تفعل مثل أخريات وتثبت فقط صورتها المغوية؟ لماذا تقبل أن تبدو في هيئة الجدة العجوز؟
لقناعتها بأن الشيخوخة جزء من رحلتها العظيمة، وأنها لا تعاني شيئاً تخجل منه، بل تعيش سنها مثل ملايين النساء في السبعين وأكثر، وما زالت أرواحهن جميلة. لذلك واصلت مهنتها وشاركت في عدد من الأفلام، كما واصلت مهامها سفيرة للنيات الحسنة في مفوضية شؤون اللاجئين.
أزالت تلك الوصمة عن كلمة "عجوز" بحضورها، وحكمتها، وابتسامتها، ونشاطها الإنساني.
رحيل شريك العمر
في عام 2007 رحل شريكها ووالد طفليها إدوارد وكارلو، عن أربعة وتسعين عاماً، بعدما عاشا معاً قصة حب تقارب ستين عاماً، ونجاحاً فنياً ملهماً، برغم أنه كان يكبرها بأكثر من عشرين عاماً، ولا يملك وسامة نجوم السينما الذين أحبوها مثل غاري غرانت ومارلون براندو.
كان كارلو بونتي مغرماً منذ أن رأى تلك البنت المراهقة في مسابقة جمال عام 1950 وهي لم تبلغ بعد السابعة عشرة، لكنها ثمرة ناضجة وشهية أكبر من سنها.
بينما رأت فيه صوفيا بديل الأب الذي غدر بأمها وتخلى عنها وهي طفلة صغيرة، والمنتج الذكي الذي يقدر أن يحمي مشروعها، وهو نفسه من أوصاها بتغيير لقبها من "سكيلوني" إلى "لورين"، يُضاف إلى ذلك أنها لم ترغب أن تفقد "إيطاليتها" بالانتماء إلى زوج وثقافة أخرى.
كان ارتباطاً عاطفياً وعقلانياً، عميقاً، قدست من خلاله قيمة الزواج التقليدي، كي لا تكرر جرح أمها، وحرصت على أن تكون أماً رائعة لتقدم صورة عظيمة للمرأة "العاملة"، والزوجة المحبة "الوفية".
جموح الخمسينات والستينات
كانت محظوظة بانتمائها إلى العصر الذهبي للسينما العالمية. حقبة جامحة بالأفكار والموضات والأحضان والبكيني ونزعة التمرد، وتعويض قسوة الحرب العالمية الثانية التي أزهقت أرواح ملايين الشباب.
ونشطت فيها وكالات الموضة والتزيين والصحة والتغذية، والترفيه، حيث استثمرت في إطلالات الحسناوات مثل جينا لولو برجيدا، كلوديا كاردينالي، مارلين مونرو، أنيتا إكبرغ، لورين باكال، وحتى في عالمنا العربي من خلال نجمات مثل هند رستم.
تلك الوكالات آنذاك كانت أكثر براعة في تأطير الجمال والعناية به، دون تشويه طبيعته. بينما يشعر الجمهور أن الوكالات الآن امتلكت تقنيات أفضل، وتُصنّع جمالاً مبالغاً فيه، ونسخاً شبه متطابقة تفتقر إلى التفرد واللمسة الطبيعية. بينما عصر صوفيا كان أكثر طبيعية، وأقوى تأثيراً في الناس بسبب "الندرة" وليس "الوفرة" المصطنعة، وأيضاً أقل ابتذالاً.
الإروسية الإيطالية
تمثل الإروسية الإيطالية النموذج النقيض للعصر الفيكتوري. وأهم ما يميزها: مركزية الجسد الأنثوي وقدرته على استحضار كل متع الحياة. فهي ليست إروسية معزولة بل جزء من كرنفال، كما نجد ذلك في سينما فيلليني، أو فيلم "الجمال الإيطالي"، وحتى أفلام تينتو براس.
فالمتعة لا تصوب إلى الجسد مباشرة بل هي متعة طقسية. وهذا ما يفسر جملتها الشهيرة "أفضل تناول الباستا وشرب النبيذ على أن أكون المقاس صفراً"، وعبارتها المرحة حين سألوها: "ماذا تأخذين معك إلى جزيرة معزولة؟"، فأجابت فرن البيتزا. فلا يشغلها أن تكون أجمل امرأة في الكون، بقدر أن تكون جزءاً من طقس السعادة.
يُضاف إلى ذلك فاعلية الجسد وحيويته، فهو لا يعرض نفسه ساكناً في الفراش، ولا مؤطراً في لوحة مثل نساء عصر النهضة، والمشهد اللعوب الأساسي على الطريقة الإيطالية، ليس الفراش، بل مشاعية الشارع، في ذلك التهادي الغزلاني، بينما عشرات الأعين تحيط وتفتن في عرض غير مباشر، مجرد شابة مغوية تسير على قدميها وتلتقط الرجال خلفها. أو حتى وهي تقف في المطبخ وتطهو تشتبك الإروسية مع لذة الأكل.
من ثم فإن مقولة إنها "أقبح الجميلات وأقبح الجميلات" تنتقص من كبرياء حاجبيها المقوسين لأعلى، وفرادة جمالها الوحشي، المختلف عن المقاييس الأوروبية والأميركية، والمعبر في جوهره عن الإروسية الإيطالية ومزاج حوض المتوسط وشمسه.
نضال مع الحياة
ظاهرياً عاشت صوفيا حياة مترفة، وأتاح لها الحظ الجيد أن تقف أمام أكثر رجال العالم وسامة: ماستروياني، كلارك غيبل، فرانك سيناترا، أنتوني كوين، غاري غرانت، ريتشارد بيرتون، وعمر الشريف. كما شكلت ثنائياً ناجحاً مع المخرج الكبير دي سيكا، إضافة إلى تعاونها مع مخرجين عظام آخرين مثل فيلليني.
لكنّ الصورة الزاهية والصاخبة في ملصقات أفلامها، ومظاهر التتويج في المهرجانات السينمائية الكبرى. كل هذا لا يعني أنها فقط كانت تحرك ملعقة الحظ الذهبية. لأن الحقيقة غير ذلك، فقد عاشت طفولة قاسية بسبب الحرب العالمية الثانية، واضطرت للعمل مع أختها في حانة افتتحتها جدتها في نابولي، وبسبب نحافتها كانت تلقب بالعصا الصغيرة.
وكأي امرأة جنوبية نابولية، تدرك معنى أن تقاتل من أجل أسرتها، ولا تستسلم للإغراءات على كثرتها.
صحيح أنها تصنف دائماً ضمن أيقونات الإغراء في القرن العشرين، لكنها لم تتمحور في أي لحظة حول جمال جسدها، لأنها تدرك أنه ليس أجمل ما فيها، بل روحها العنيدة المثايرة.
لذلك منذ بداياتها اختارت قصصاً سينمائية بالغة التنوع، وكانت بطلة فيلم "امرأتان" وبفضله كانت أول ممثلة أجنبية تحصل على أوسكار أفضل ممثلة. وهو فيلم لا يتغنى بأنثوتها بل بكفاح امرأة ضد الحرب والذكور والفقر والجوع، دفاعاً عن ابنتها. والطريف أنها كانت يائسة من الفوز فلم تذهب لاستلام أكبر جائزة حصلت عليها!
لا أحد ينكر أيقونية جسدها المغوي المرح، لكن حضورها العميق أنها كانت أيقونة ثقافية لكل امرأة تناضل من أجل أسرتها وسعادتها، وتفعل المستحيل كي تستجيب لها السماء في كل ما تريد، وبهذا الوعي كتبت سيرتها "أمس واليوم وغداً" مستلهمة اسم فيلمها الشهير.
اكتسبت صوفيا بمرور الزمن، حكمة مرحة تشبه جسدها ونسبت إليها أقوال كثيرة شهيرة مثل: أنا زرافة، أمشي مثل الزرافة بعنق طويل وساقين طويلتين. إنها حيوان غبي فعلاً! أكبر ميزتين ولدت بهما: أنني ولدت عاقلة وأنني ولدت فقيرة.. حين تكونين أماً لا يمكنك التفكير بنفسك. على الأم أن تفكر مرتين، مرة بنفسها ومرة بطفلها.. كل ما تراه أدين به للسباغيتي.. لا شيء يجعل المرأة جميلة أكثر من إيمانها بأنها جميلة.
هذه الحكمة المرحة، والصلابة النقية التي تتوارى خلف سمرتها، وعينيها اللوزتين، وساقيها الفارعتين، هي ما جعلتها من الملهمات في القرن العشرين، وثمة وثائقي قصير لا يزيد عن ثلاثين دقيقة بعنوان "ماذا عسى صوفيا لورين أن تفعل؟" يلخص ببراعة طبيعتها الأيقونية، من خلال ربط قصتها بقصة "نانسي" السيدة الأميركية ذات الأصل الإيطالي، التي عاشت حياة موازية كانت النجمة الشهيرة مثلها الأعلى، حيث ظلت نانسي وفية لروحها الإيطالية عبر متابعة صوفيا وجسدها في كل أفلامها، وتحولاتها. وكيف أثرت فيها بروحها وقيمها. إلى أن حانت اللحظة المؤثرة حين تلتقي المرأتان وهما تدركان ما تتشاركان فيه من العاطفية، وقوة الإرادة، وحب الحياة والنضال من أجل السعادة مهما كانت مرارة الخسارة والفقد.