مذهل هذا الموزار (1756-1791)! بدأَ العزفَ على البيانو في الثالثة، والتأْليفَ في الرابعة، وما بلغ الثانية عشرة حتى كان وضَع 10 سمفونيات، واسمه ذاع في القصور الملكية. وراجت مؤَلفاته في عصره حتى ليُقدِّرها مؤَرخو العلْم الموسيقي بنحو 893 مقطوعة بين كونشرتو وسوناتا وسمفونيا وأُوبرا وكَوْرس وموسيقى حجرة، وكان ساحر العزف على الكمان والبيانو والأُورغ. وتوفي شابًّا في الخامسة والثلاثين بعدما ملأَ عصره أَعمالًا موسيقية خالدة ما زالت تعزفها أوركسترات العالم حتى اليوم.
ومن مفاجآت تآليفه: اكتشاف مقطوعة جديدة له غير معروفة. فماذا عنها؟
المؤلف المحموم الغزير
كأنه منذ طفولته الباكرة كان مرصودًا على الخلود. وحين شب يافعًا لم يأْخذه جنون التأْليف من اللهو والمرح وميله إِلى تربية القطط وإِطلاق النكات اللاذعة. وفي بعض تآليفه مقاطع موسيقية يبدو فيها مرحًا باسمًا لَعوبًا على بعض سخرية تتخلَّل أَعماله الكبرى التي تملأُ اليوم برامج كبريات الأُوركسترات السمفونية والفيلهارمونية في مختلف عواصم العالم. ذلك أَنه كان مؤَلفًا مذهلًا غزير الإِنتاج، كأنما لم يكن لديه وقت إِلَّا للتأْليف.
صف طويل من 400 متر
جديده، بعد 233 سنة على وفاته، مشهدٌ مساء الخميس في التاسع عشر من هذا الشهر، لـصف طويل من نحو 400 متر لعشاق الموسيقى ينتظرون دورهم للدخول إِلى باحةٍ في سالزبورغ (مدينة مولد موزار) تم فيها للمرة الأُولى عزف مقطوعة موزار الجديدة غير المكتشفة بعد ولا المعزوفة قبلًا، فيما العالم كلُّه كان يعرف أَنْ لم تعُد لموزار مقطوعات غير معروفة إِذ جميع مؤَلفاته يتكرر عزفها في برامج الأُوركسترات العالمية الكبرى.
المقطوعة الجديدة تحتضنها مكتبة لايبزيغ البلدية العامة التي وُجدت المقطوعة في مجموعة مخطوطاتها النادرة فيما كانت إِحدى الموظفات في المكتبة ترتِّب أَوراق موزار لتحديث الطبعة الجديدة من كاتالوغ "كوتشِل" الذي أَنشأَه المؤَلِّف الموسيقي لودفيك فون كوتشِل (1800 - 1877) خصيصًا لفهرسة أَعمال موزار.
والمقطوعة الجديدة وضعها موزار لثلاث آلات وترية، تتشكل من سبع حركات، مكتوبة بحبر بني داكن على ورق أَسمر. طولها عزفًا 12 دقيقة. ولدى عَزَفَها طلَّاب "معهد جوهان سيبتاستيان باخ للموسيقى" في دار أُوبرا لايبزيغ لاقت نجاحًا مدموجًا لدى عشاق موزار بفرح اكتشافها.
مقدمة لعمل أَكبر
قبيل عزفها صرَّح أُولريخ لايزنغر (رئيس قسم الأَبحاث لدى مؤَسسة موزار في سالزبورغ) قائلًا إِن "العالم سيتعرف إِلى مقطوعة تتمم جميع مؤلفات موزار المكتشَفة". ويرجِّح، من عمق معرفته بأَعمال موزار، أَن يكون موزار وضعها خصيصًا لاحتفال في الهواء الطلق مقدمةً تلفت انتباه المشاهدين تمهيدًا لعزْف مقطوعة كبرى له. وهنَّأَ المشاهدين الذين تهافتوا لسماعها أَن يكونوا أَول مَن سيسمعونها بعد غيابها 256 سنة في المخبأ. ولَم يُخفِ لايزنغر إِعجابه من أَن تكون مقطوعةٌ كلاسيكية منذ قرون تستأْثر باهتمام جيل جديد يعيش حاليًّا على مقاطع "التيك توك" القصيرة جدًا.
الحالدون في الزمان
اللافت أَن المقطوعة المكتشَفَة في لايبزيغ ليست أَصلية بخط موزار، بل هي نسخة يرجِّح لايزنغر أَن يكون نَسَخَها ناشرٌ موسيقي سنة 1780. كما يرجِّح أَن يكون موزار وضْع هذه المقطوعة قُبَيل سفره الأَول مع والده إِلى إِيطاليا بين 1770 و1773 وزيارته فيرونا وفلورنسا وروما، وتَعَرُّفه في ميلانو إِلى فن الأُوبرا الذي أَتقَنَهُ وبرَع فيه لاحقًا.
هكذا الكبار الخالدون: يُبدعون نتاجهم غزيرًا ويرحلون، تاركين وراءَهم مَن يُلملمُهُ وينشُرُه بعدهم، منه ما يصدر كاملًا، ومنه مَن تَبْقى منه شذرات حتى إِذا اكتُشِفَت يعود مُبدعها إِلى الأَضواء من جديد، فيتجدَّد خلودُه ويبقى عابرًا هانئًا في ذاكرة الزمان.