بيروت - نبيل مملوك
مع ذكرى مرور أربع سنوات على رحيل الناشر والصحافي السوري رياض الريّس (1938-2020)، بعد إصابته بفيروس كورونا، نقف عند تجربة الريّس في عالم النشر، والتي تُوّجت عبر إنشاء دار نشر حملت اسمه وضمّت أعمال كتّاب وشعراء غيّروا المشهدين الثقافي والسياسي أبرزهم: محمود درويش، وضّاح شرارة، فوّاز طرابلسي، رشيد الضعيف وسواهم...
في كتابه الأغرّ "آخر الخوارج"، الصادر عام 2004 في طبعته الأولى، يرسم رياض الريّس حياته وسيرته المهنيّة والذاتيّة بطريقة مغايرة وكأنّه يتنصل من السير الذاتيّة النمطيّة، مفضلاً القفز نحو تجربة شخصيّة معرفيّة تنطلق من الذات ولا تعود إليها بل إلى الآخر الذي يشكّل ذاته، ما يطرح التساؤل الآتي: إلى أيّ حدّ ساهمت مراحل رياض الريّس الطفوليّة والشبابيّة في نسج تجربة نموذجيّة؟
العلاقة المثاليّة مع الذات
يستهلّ الريّس سيرته الذاتيّة أو "أشياء من سيرته الصحافيّة"، كما سمّاه، بقول لزعيم حزب العمّال البريطاني أنورين بيفان: "كلّ السير الذاتيّة أكاذيب"، فكأننا أمام شخصيتين: أحدهما يكتب السيرة والثاني يهرب منها.
صفة الكذب تتخطّى النقد نحو الانتقاد والرفض لكلّ التدوينات الشخصيّة، لا سيّما المتعلقة بالتفاصيل الشخصيّة، ما دفعه إلى تسويغ كتابته على الشكل الآتي: "ليس في هذا الكتاب أي شيء شخصي خارج سياق حياة هذا الورّاق في الصحافة. إذ ليس فيه فضائح أدبيّة ولا مغامرات نسائيّة...".
من خلال هذا التقديم يتّضح لنا أنّ الريّس عاتب على المدوّنين الذين ينزلقون إلى هوّة الذات وغرائزها وميلها اللاواعي نحو الاستعراض والانحياز وتسويغ الأخطاء أو بالأحرى تجميلها. من خلال سرده لتفاصيل طفولته، أظهر رياض الريّس الخيط الرفيع الفاصل بين الذات والعلاقة المثاليّة مع الذات، فغاية الناشر السوريّ لم تكن التطرّق إلى البطولات والخطوات الجبّارة أو البدء بلازمة الفقر والمعاناة، بل كانت صوراً حقيقيّة موضوعيّة تمزج بين الاسترجاع والنقد الذاتيّ.
كان لافتاً أيضاً ذكر جميع من كانوا في فترة الطفولة ودورهم من دون محاباة أو حتّى مفاضلة، وكأنّه كان يبني المجتمع على الورق كما هو بأدوات كاللغة التواصليّة والتاريخ والذاكرة.
ومن خلال الفهرس الذي يشكّل عادة هيكل الكتاب ككلّ، نرى أنّ التدرج في بسط المراحل أمام المتلقّي كان ذا غرضين: الأوّل تسهيل عمليّة التقلي، أمّا الثاني فهو إظهار المسار الفكري والحياتي وتطوّره كمدخل لتقييم حقبة تجاوزت النصف قرن مهنياً وإنسانياً.
لم يكن رياض الريّس بحاجة إلى بطولات وإنجازات لربط ذاته بعلاقة مثاليّة مع الآخر، يكفي أنّه أظهر المحاولات والتجارب التي أخفق خلالها ليخرج المثقف من بوتقة القداسة والمثاليّة الزائفة نحو فضاء التواصل والإصلاح والتصحيح.
مواقف جوهريّة
يظهر التطرق إلى مجلّة الناقد التي أسّسها رياض الريّس عام 1988 لم يكن فقط يشكّل حالة حنين وتنظيم مشاعر للريّس كما أشار إليها، بل كان يحاول أن يمزج ما بين هواه الأدبي والمهني الصحافيّ، فالعمل ضمن نطاق تواصليّ في عالم يتطلّب التحقّق والتقصّي والركض خلف الخبر والصورة جعلت رياض الريّس يشقّ طريقه نحو الأدب وعالم النشر والثقافة، ليدخل بدءاً من ثمانينات القرن العشرين في المعادلة الذهبيّة في هذا العالم، خاصّة أنّ الريس كان منذ نعومة أظافره متدرّباً على المشاريع الأدبيّة الصغرى (كالقصائد التي كتبها وحرّرها في مجلّات محليّة).
أمّا المواقف الجوهريّة فقد ترجمها الريّس من خلال إطلالات على تجارب مهنيّة مع صحيفة النّهار والصداقة التي ربطته برئيس تحريرها غسّان تويني، فضلاً عن تجربته في الخليج، والتطرّق لمجلتي المنار والمستقبل، كأنّنا أمام إصرار على الموضوعيّة واحترام التجارب وجعلها متساوية من ناحية الأهميّة ليكون الريّس متعلماً مستداماً يبتعد عن التنظير ونبرة العبرة.
أثر الرحيل
يروي أحد الناشطين على "فايسبوك" تفاصيل زيارته لـ"شيخ الناشرين" رياض الريس فيقول (بتصرّف): إنّه يريد القراءة لكنّ عمله في مجال النفط يأخذ كلّ وقته، ليردّ الأخير ناصحاً: "اجعل من مهنتك زوجة ومن القراءة عشيقة"، من خلال معادلة بسيطة تقوم على الحب والحبّ المضاعف استطاع الريّس ترسيخ حبّ الثقافة والاهتمام بها بسلاسة أو لنقل بصيغة شعبيّة تتناسب مع جميع الطبقات المثقّفة ومستويات أفرادها.
رحيل رياض الريّس لم يمنع دار النشر التي تحمل اسمه، من مواكبة ما هو جديد، سواء على صعيد التسويق أو المشاركة في معارض الكتب، لا بل تحرص فاطمة بيضون، مديرة الدار وزوجة الراحل ورفيقة دربه، على إبقاء إصدارات الدّار في الطليعة، سواء من ناحية الاستمرار بإصدار طبعات جديدة أو استقطاب كتّاب جدد مثل الصحافي منير الربيع الذي طبع باكورة أعماله، فضلاً عن انفتاحها على الصحافيين وتأمين الإصدارات لهم بسخاء واهتمام.. لم تستطع فاطمة بيضون عقيلة الريّس أن تنفصل عن صور زوجها، فعلى جميع حساباتها صور رياض حاضرة، سواء مبتسماً أو متربعاً على كرسيّ وبيده سيجار المثقّفين المسيطرين بحضورهم على المشهد.
تأتي ذكرى رحيل رياض الريّس هذا العام محفوفة بقلق وتشنّج إنسانيّ. سوريا التي أقبل منها لم تنفض عنها غبار الحروب الأهليّة المصغّرة ولم تتبرّج باستقرار سياسيّ وثقافي، ولبنان الذي نشأ فيه منذ ثانويّة برمانا والجامعة الأميركيّة يتعرّض لحرب إسرائيليّة تكاد تكون شاملة، وفلسطين ما زالت تتلقّى ضربات في كبدها غزّة وخاصرتها الغربيّة "الضفّة" وتتعرّض إلى حملة إبادة شرسة، فهل كان لآخر الخوارج وأترابه دور اعتمدوا علينا لإتمامه ولم نتممه؟ ربّما باقي كتب الريّس منها رياح السموم/ رياح الجنوب/ وثائق الخليج العربي/ مصاحف وسيوف تحمل بعض الأجوبة.