تتطلب مشاهدة الجزء الثاني من فيلم "الجوكر" (بدأ عرضه في دور السينما اعتباراً من 4 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري)، الاستعداد لانعطافة كبرى في هذه الشخصية. خلاصٌ يهبط عليه من حيث لا يدري، ومعبرٌ إلى ما سيمسي كلّ حياته.
ولعلّ الملامح الأولى من تلك الانعطافة تتشكّل مع ظهور ليدي غاغا إلى جانب واكين فينكس، بحيث يتكامل عنوان هذا الجزء: Joker: Folie à Deux "الجوكر: الثنائي المجنون".
مع مفتتح الفيلم، سنكتفي من العنوان بـ "الجوكر" عائداً مجدّداً إلى الشاشة الكبيرة، وقد أودع السجن جرّاء قتله خمسة أشخاص في الجزء الأول، لا بل ستّة – كما سيصحّح الجوكر هذه المعلومة وقد أقدم على قتل أمّه أيضاً – والصراع الأساسيّ ماثل بدايةً بسعي محاميته ماريان ستيوارت (كاثرين كينر) إلى إقناع المحكمة بأنّه مختلّ نفسيّاً جراء نشأته وظروفه ونحو ذلك ممّا ينجّيه من الإعدام!
لكنّ إثبات ذلك يعني أنّه ليس سوى آرثر فليك مثله مثل آلاف المهمّشين في مدينة "غوثام"، وليس الجوكر الرمز والمُلهم لهؤلاء الآلاف وتمرّدهم وعصيانهم وصولاً إلى "ثورتهم"!
شرير خارق
بالعودة خمس سنوات إلى الوراء، سنكون حيال الجزء الأول، وهذا مدعاة للقول إنّ المخرج تود فيليبس حينها استخلص شخصية الشرير الخارق "الجوكر" من سلسلة كوميكس "دي سي"، فلا هو خارق لوحده ولا بطل نقيض لـ باتمان، بل هو آرثر فليك، المهرّج، الكوميديّ، الذي قالت له أمّه إنّه خُلِق ليجلب السعادة إلى هذا العالم، إلّا أنّ أحداً لا يضحك على نكاته حين يقدّم عروض "ستاند آب كوميدي"، بل يوسعه الأولاد ضرباً كمهرج، وصولاً إلى اكتشافه أنّ كلّ حياته قائمة على كذبة كبيرة منبعها أمّه.
وبالتالي فإنه يجمع بين ترافيس بيكل وروبرت بابكين، بطلَي فيلمَي مارتن سكورسيزي "سائق التاكسي" (1976) و"ملك الكوميديا" (1982)، وقد جسّدهما روبرت دي نيرو، وهو موري فرانكلين أيضاً، مقدّم البرنامج الكوميدي على التلفزيون الذي سيتلقى رصاصات الجوكر على الهواء مباشرة متبوعاً ببيانه التأسيسي للعصيان والتمرّد في أنحاء "غوثام".
وهنا يمكننا القول إنّ آرثر فليك هو مزيج بين بيكل وبابكين، وحيد، مأزوم، مهمّش، واهم، فاشل، فصامي، ومن ثمّ عنيف.
وبالعنف وحده يُسمع صوته، ويختلف عنهما فقط بأنّ له مرجعية في الكوميك، وليحضر ذلك على صعيد الشكل، فهو ليس كوميدياً فقط كما بابكين إنّما مهرّج أيضاً، مهرج بحوزته مسدّس، يقع منه وهو يقدّم فقرة في مستشفى لأطفال مصابين بالسرطان، وبهذا المسدّس يجد نفسه، ينتقم بواسطته من المستهترين والمستهزئين به، المتنمّرين، وصولاً إلى أمّه التي ستكون مصدر كلّ الأكاذيب التي عاش عليها، ونزلت عليه دفعة واحدة.
ثائر وملهم
انطلاقاً من هذه الخلفية سيصبح ثائراً، وملهماً لمن هم مثله، ودوافعه في ذلك محض شخصية، ورفضة لـ "النظام" الذي يقرّر "الصحيح والخاطئ، وما هو مضحك وغير مضحك"، نابع من أنّه في المكان الخطأ، ونكاته لا تُضحك، ولو أنّ الأمر عكس ذلك لاندمج في هذا النظام وأصبح جزءاً منه.
خذوا في الحسبان كلّ ما أوردته عن الجزء الأول، وشاهدوا الجزء الثاني، والذي لن يلغي كلّ ما كان عليه، وتحديداً مع القسم الأول من الفيلم، فالأجواء رمادية، معتمة وداكنة، والجوكر ملازم الصمت، لا نعرف ما يدور في رأسه، وكيف له أن يخرج من مأزقه، ويعاود نشر رسائله الغاضبة، هل سيهرب من السجن وهو يؤخذ لمقابلة لجان تبحث أمر أهليّته نفسياً؟ هل سيشعل تمرّداً في السجن، ويواصل الانتقام من الحرّاس ورجال الشرطة وهم يواظبون على سؤاله كلّ يوم أن يروي نكتة ولا يفعل؟ هل سيهبّ مريدوه لنجدته، وخاصّة أنّ فيلماً عُرض عنه واتّسع نطاق أتباعه ومعجبيه أضعافاً مضاعفة؟
العاشق الراقص
يكفي أن يلمح الجوكر لي كوينزيل (ليدي غاغا) في حصة غناء في المصحّ الذي يأخذه إليه الشرطي جاكي (برندان غليسون)، حتى ننسى تلك الأسئلة، ويمسي آرثر أو الجوكر عاشقاً ولهاناً، ويتحوّل الفيلم إلى فيلم موسيقي راقص، عماده قصة الحب بين آرثر وكوينزيل، ولنشاهد الأول وهو يغني أغنية ستيفي وندر : "للمرة الأولى في حياتي ثمة من يحتاج إليّ، وقد احتجت إليه منذ زمن طويل، وأنا للمرة الأولى لست خائفاً وأستطيع المضي إلى حيث تأخذني الحياة".
وهكذا فإنّ الفيلم سيمضي في خطّين متوازيين ومتداخلين في آن معاً، الأول ماثل في محاكمة آرثر، والثاني في تطوّر قصة الحب بينه وكوينزيل، بحيث يمكننا هنا القول إنّ المشاهد يصبح حيال آرثر وليس الجوكر، أو أنّ الصراع الرئيس سيكون في حسم أمر بطلنا في خصوص أيّ منهما يريد، وهنا سيرتبط الأمر أيضاً بحبيبته، والسؤال الجوهري هنا سيكون: من بدورها تحبّ، الجوكر أم آرثر؟
آرثر مسرنم، مأخوذ بالحب، وقد وجد فيه معنى لحياته، وهنا الحبّ حقيقيّ، وليس كحبّه لجارته في الجزء الأول، والذي ما كان سوى محض خيال وأوهام تدور في رأسه.
بينما في الجزء الثاني فإنّ الأغاني والرقص والجمال والألوان ما يدور في رأسه، التي يعادلها بصرياً فواصل غنائية راقصة مع كوينزيل، تتضح فيها أنّه غير مبالٍ بالواقع وبكلّ ما يدور حوله، رغم ألّا شيء تغيّر على صعيد اضطهاده في السجن والحبس الانفرادي ونحو ذلك، وأمامه خيارات كثيرة على صعيد التمرّد طالما أنّ مريديه وأتباعه يملأون الشوارع ويتظاهرون أمام المحكمة، إلّا أنّ كلّ ذلك لا يعنيه، وكلّ عذاب يهون ويذوب في قلبه الممتلئ عشقاً، ففي الحبّ الشفاء والنجاة، وقد عثر على الحبّ الحقيقي، أو كما تقول أغنية "سيعثر عليك الحبّ الحقيقيّ في النهاية" لدانيال جونستون التي يؤدّيها فينيكس: "فالحبّ الحقيقي يبحث عنك، لكن كيف له أن يعرفك...." نعم هذا صحيح: كيف له أن يعرف ما إذا كنتَ آرثر أم الجوكر، وأيّهما تحبّ كوينزيل؟ ولأيّ منهما سينحاز هو المنقسم بينهما!
ثنائي مجنون
الجوكر في جزئه الثاني منحاز إلى الحبّ والغناء والرقص، لا بل هناك إفراط بالأغاني والرقصات، وما يتوصّل إليه الجوكر في النهاية أجمل ممّا يراد له أن يكون تمرّداً وحركة شعبية، ونحو ذلك من تحريفات ما بعد حداثوية، وهي لا تتعدّى حالة فصامية، تمرّداً نوابعه شديدة الفردية، متأتية من التهميش والعزلة والفشل، من دون أن تبالي لا بعدالة ولا مساواة، كما تيلر ديردين في فيلم ديفيد فينشر "نادي القتال" (1999)، الذي ما إن يكتشف فصامه في الجزء الأخير من الفيلم والكوارث التي أحدثها حتى يسعى إلى التنصّل من كلّ ذلك.
وكذا هو "الجوكر" الذي بمجرّد عثوره على من تهتمّ لأمره وتحبّه، ينسى كلّ ما ومن حوله، لكن هل هي تهتمّ لأمره بحقّ، هل فعلاً أحبّته؟ هل هما "ثنائيّ مجنون"، وأيّ منهما متمسّك بهذا الجنون!