أحمد حيدر
في أروقة وول ستريت المظللة، حيث تُصنع الثروات وتُفقد على همسات الصدفة، يتردد صدى قصة من الماضي القريب؛ قصة رهان رجل واحد ضد سوق الإسكان العملاق. مايكل بوري، مدير صندوق التحوط، الغريب الأطوار مع ميل لموسيقى الميتال وبصيرة خارقة، رأى الشقوق في واجهة اقتصاد مزدهر. مع رهان يقدر بحوالي 1.3 مليار دولار ضد قطاع الرهن العقاري المنخفض الجودة من خلال مبادلات التخلف عن السداد الائتمانية، وقف تقريباً وحيداً ضد تيار النشوة السوقية.
تلوح اليوم أشباح عام 2008 فوق السوق مرة أخرى. فقد ثبّت الاحتياطي الفدرالي أسعار الفائدة على الدولار أمس، بين 5.25 إلى 5.50%، ولكن المستقبل لا يزال غامضاً. ففيما استبعد رئيس "الفدرالي" جاي باول رفعاً إضافياً للفائدة، ما أراح الأسواق نسبياً، إلا أن تركيزه على عدم ضبط معدلات التضخم يشير إلى أن أسعار الفائدة ستبقى مرتفعة لفترة من الزمن. هذه الأرقام تتردد مع أصداء الماضي، ولا سيما عام 2008. حينها تخبط "الفدرالي" بين رفع الفائدة لمواجهة انفلات معدلات التضخم أو تثبيتها لتلافي الانكماش الاقتصادي. وانفجر قطاع الرهون العقارية، ودخل العالم والولايات المتحدة معه، فترة ركود حاد اضطرت "الفدرالي" إلى تخفيض معدلات الفائدة وإبقائها قرب الصفر لأكثر من عقد من الزمن.
في قطاع التكنولوجيا، تتعالى همسات فقاعة مع "السبعة الرائعين"، ولكن إمكانية حدوث انفجار موضع نقاش، دون وجود إجماع واضح. هنا أيضاً، يحوم شبح الماضي مع فقاعة الـ"دوت كوم" مطلع الألفية في الأذهان.
بعيداً عن المخاطر الجيوسياسية في الشرق الأوسط وأوكرانيا، ما هي المؤشرات الضاغطة على السوق اليوم؟
انقلاب منحنى العائد
تاريخياً، كان انقلاب منحنى العائد على السندات الأميركية، مؤشراً موثوقاً على الركود الاقتصادي، بحيث تتجاوز أسعار الفائدة على المدى القصير الأسعار على المدى الطويل. في السيناريو الحالي، انعكس منحنى العائد لمدة 666 يوماً، وهي أطول فترة منذ اعتماد هذا المقياس في ستينات القرن السابق. فقد سجل الفارق بين الفائدة المستحقة على السندات الآجلة خلال 10 سنوات وتلك الآجلة خلال سنتين 0.32%- نهاية الأسبوع الفائت، فيما بلغ هذا الفارق بالمقارنة مع السندات الآجلة خلال ثلاثة أشهر 0.78%-.
في عالم المال، منحنى العائد المقلوب هو مفارقة. إنه مثل البوصلة التي تشير إلى الجنوب، وهو مُنذِر بالعواصف الاقتصادية. الأرباح القصيرة الأجل تُظلل الاستقرار الطويل الأجل، ما يؤدي إلى تكاليف اقتراض عالية، ونسب أرباح مضغوطة، وتقليص في الوظائف. باختصار، ينقلب "ألف باء" الاقتصاد رأساً على عقب!
يجادل ستيفن بليتز، المدير الإداري في "تي.إس. لومبارد" في حديث للـ"إيكونومست"، بأن الاقتصاد لم يدخل في ركود بعد لأن العائد الحقيقي انعكس فقط بداية العام الحالي. العائد الحقيقي الذي يأخذ في الاعتبار توقعات التضخم، غالباً ما يُنظر إليه على أنه مؤشر أكثر دقة للانكماش الاقتصادي. يعكس معدل الزيادة في القوة الشرائية خلال مدة الاستثمار، مع مراعاة الزيادة في معدل التضخم.
لذا، على الرغم من انعكاس منحنى العائد الاسمي لبعض الوقت، يشير انعكاس منحنى العائد الحقيقي الأخير إلى أن خطر الركود لا يزال مرتفعاً، وقد يكون في تصاعد أواخر عام 2024 أو أوائل عام 2025، رغم أن بليتز بقي متفائلاً اتجاه الاقتصاد.
في الآونة الأخيرة، شهدنا ارتفاعاً قياسياً في أسعار الذهب الذي يعتبر ملاذاً آمناً للمستثمرين ويدل عموماً إلى تنويع في محافظ البنوك المركزية عبر شراء المعدن الأصفر. يتوقع "غولدمان ساكس" أن تصل الأسعار إلى 2700 دولار للأونصة في نهاية 2024. هذا الارتفاع في أسعار الذهب يتزامن مع قوة مؤشر الدولار الأميركي، الذي يعكس قوة الدولار مقابل سلة من العملات الرئيسية. هذا الجمع بين ارتفاع أسعار الذهب وقوة الدولار يعتبر ظاهرة نادرة. الجدير بالذكر أن الذهب والدولار عادة ما يكون لهما علاقة عكسية، حيث يرتفع سعر الذهب عادة عندما يضعف الدولار. ولكن، في الظروف الحالية، يبدو أن الذهب والدولار يتحركان في الاتجاه ذاته، ما يشير إلى وجود عوامل أخرى تؤثر على السوق.
واحد من هذه العوامل التي ذكرناها، هي الانقلاب في منحنى العائد حيث يستفيد الدولار من الفائدة المرتفعة مقارنة بباقي العملات في سلة المؤشر، وخصوصاً على السندات القصيرة الأجل، بحيث يجني المستثمرون ربحاً سريعاً في ثلاثة أشهر يفوق 5% ويحافظون على مستوى سيولة عالية في محفظاتهم.
في الوقت نفسه، توقع هؤلاء المستثمرون أن تخفض البنوك المركزية أسعار الفائدة، في النصف الثاني من العام، ما بين نقطة و1.25 نقطة مئوية، ما جعل الذهب أكثر جاذبية مقارنة بالأصول ذات العائد الثابت كالسندات. هذه المفارقة تؤكد مجدداً الخلل في الأسس العامة لحركة السوق، لا سيما أسواق الأسهم، حيث أغلق مؤشر ستادرد أند بورز 500 عند 5018.39 نقطة مبتعداً فقط بنسبة 4.7% عن أعلى مستوياته عند 5254.35 نقطة.
فقاعة في قطاع التكنولوجيا؟
لا شك بأن الرافعة الأساسية لتخطي مؤشر الأسهم الأميركي معدلات النمو الطبيعية سابقاً، كان الضخ الهائل للأموال من قبل المستثمرين في قطاع الذكاء الاصطناعي، لا سيما بعد إطلاق شركة "openAI" برنامجها "Chat-gpt". الشركات السبع الكبرى في التكنولوجيا، لعبت دوراً هاماً في الأداء الإجمالي للسوق. هذه الشركات، التي تشمل شركات ألفابت (غوغل)، أبل، مايكروسوفت، أمازون، إينفيديا، ميتا وتسلا، قد ساهمت في حوالي 75% من مجموع العائدات لمؤشر ستاندرد أند بورز في عام 2024.
بحسب ديفيد كوستين من "غولدمان ساكس"، تظهر التقديرات أن مبيعات الشركات التكنولوجية الكبرى ستنمو بمعدل مركب سنوي نسبته 11% حتى عام 2025 مقارنة بـ3ـ% فقط لبقية الشركات في المؤشر.
إذا استُبعدت هذه الشركات الكبرى من المعادلة، فإن أداء الأسهم الأميركية سيكون متواضعاً ومتوافقاً مع عائدات صناديق الأموال السائلة. هذا يوضح الدور الحاسم الذي تلعبه الشركات التكنولوجية الكبرى في رفع السوق، لكنه يزيد كثيراً إمكانية حدوث فقاعة خلال الربعين المقبلين من السنة إذا لم يتوافق مردود الذكاء الاصطناعي مع حجم الاستثمارات فيه. لا يمنع الاختراق الكبير الذي أحدثته هذه التكنولوجيا المتطورة من تشكيل فقاعة كما حدث عام 2000 وإن كانت فرصة التعافي أسرع بكثير بهذه الحالة.
نمو الوظائف بدوام جزئي
ولتكتمل معنا المؤشرات السلبية لا بد من الالتفات إلى سوق العمل في الولايات المتحدة، والذي أظهر صلابة خلال الربع الأول. لكن كان لافتاً في تقرير وزارة العمل لآذار 2024، أن هناك حوالي 29.29 مليون فرد يعملون بدوام جزئي في البلاد. هذا الرقم القياسي للوظائف بدوام جزئي قد يكون مؤشراً على أن الشركات تحاول تجنب دفع تعويضات عالية في حال حدوث ركود اقتصادي وتسريح للعمال. من خلال التوظيف بدوام جزئي بدلاً من الكامل، يمكن للشركات تقليل التكاليف والحفاظ على مرونة أكبر في القوى العاملة.
من البديهي أن يتأثر الاقتصاد العالمي بشدة في حال حدوث انكماش أو ركود في الاقتصاد الأميركي. صندوق النقد رفع في كانون الثاني توقعات النمو للاقتصاد العالمي إلى 3.1% في 2024 و3.2% في 2025، استناداً إلى مؤشرات قوية تدل إلى هبوط ناعم للاقتصاد الأميركي بعد موجة التضخم الهوجاء. لكن الصندوق لطالما عدّل إيجاباً أو سلباً توقعاته استناداً إلى المؤشرات الأساسية للاقتصاد دون الاحتساب الكمي للمخاطر في المؤشرات التي ذكرناها.