تُعَدّ شركات التكنولوجيا العملاقة من المحركات الأساية للنمو الاقتصادي في الولايات المتحدة مؤخراً، ويزداد التفاؤل بإسهامها المحتمل في النمو الاقتصادي والابتكار خلال السنوات القليلة المقبلة، بحسب تقرير نشرته صحيفة "تلغراف".
قد يبدو هذا متناقضاً ومفاجئاً لأن الحكومة الأميركية، إلى جانب نظيراتها في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، تلاحق عدداً من القضايا المتعلقة بمكافحة الاحتكار ضد القوة الاحتكارية المزعومة لعمالقة التكنولوجيا. وقد أشارت التقارير المقدمة لهذه السلطات إلى أن القوة السوقية لهذه الشركات كانت في تزايد خلال السنوات الأخيرة.
ألا يتقيّد المحتكرون بالكميات المنتجة (لرفع السعر)، وأليسوا معروفين بأنهم أقل اندفاعاً نحو الابتكار (لأنهم يواجهون ضغطاً تنافسياً يهدد بقاءهم بشكل أقل؟ فكيف يمكنهم زيادة قوتهم السوقية وفي الوقت نفسه أن يكونوا محركات النمو؟
بحسب التقرير، تتفرّع الإجابة إلى ثلاثة أجزاء. أولاً، يمكن أن تنشأ الاحتكارات حتى في الأسواق التي تنمو بسرعة. ومع ذلك، من المهم أن ندرك أنه حتى عندما يكون هناك محتكرون مع نضوج السوق النامية. قد يكون من الصعب تحديد من هم هؤلاء المحتكرون (أو من سيكونون) في ظل هذه الظروف، ومن السهل أن نخطئ في ذلك، مثلاً بعض النقاشات حول شركة الشبكات الاجتماعية "ماي سبايس"، حيث أشارت مقالة في صحيفة "غارديان" في أوائل عام 2007 إلى أنه "قد يكون الأوان قد فات بالفعل على المنافسين لإزاحة "ماي سبايس" وكان موقع فايسبوك قد فُتح للجمهور قبل خمسة أشهر".
ثانياً، يمكن للاحتكار أن يتيح الابتكار ويسرّع وتيرته؛ فهو ليس دائماً عقبة. يمكن استخدام الأرباح التي يحققها المحتكرون للابتكار بهدف الحفاظ على وضع المحتكر المهيمن. ويمكن أن تضيف هذه الابتكارات قيمة تؤدي إلى زيادة القيمة الإجمالية للإنتاج الاحتكاري.
ثالثاً، وربما الأهم، إن وصف عمالقة التكنولوجيا بأنها احتكارية عموماً (على عكس امتلاكها قوة سوقية كبيرة في عدد قليل من الأسواق الضيقة نسبياً) هو وصف خاطئ على الأرجح. لا يمكن إنكار أنه كانت هناك، وربما ستستمر، مشكلات تنافسية في قطاع شركات عمالقة التكنولوجيا. كانت هناك حالات شهيرة مثل السلوك المناهض للمنافسة من قبل شركة مايكروسوفت تجاه شركة نتسكيب، ومن المؤكد أن هناك حالات أخرى ستظهر في المستقبل وفقاً لما ذكره التقرير.
لكن السلطات المعنية بالمنافسة قد تجاوزت مؤخراً التحقيق في حالات محددة من السلوك المناهض للمنافسة إلى تصنيف عام لبعض شركات عمالقة التكنولوجيا على أنها احتكارية بطبيعتها. تشمل هذه الشركات "غوغل" و"أبل" و"ميتا" و"مايكروسوفت" و"أمازون" و"نفيديا"، ويُشار إليها باسم "غامان".
يُزعم أن بعض الخصائص في أسواق التكنولوجيا، بما في ذلك خاصة تأثيرات الشبكة (على سبيل المثال، يحصل مستخدمو منصة وسائل التواصل الاجتماعي مثل فايسبوك على قيمة أكبر منها إذا كان هناك المزيد من المستخدمين الآخرين؛ كلما كبرت الشبكة زاد الربح)، تؤدي إلى "الدفع" بحيث إنه بمجرد أن تصبح الشركة مسيطرة لا يمكن استبدالها. وعندها تُعتبر شركات عمالقة التكنولوجيا جميعها احتكارية. علاوة على ذلك، إذا حاولت هذه الشركات توسيع أنشطتها من أسواقها الحالية إلى أسواق جديدة، يُنظر إلى ذلك على أنه استغلال احتكاري غير تنافسي لقوتها في سوق ما لتعزيز قوتها السوقية في أسواق أخرى.
وجاء في التقرير أيضاً أن هذا التحليل يغفل العديد من الميزات الهامة لقطاعات التكنولوجيا، وبخاصة ما يسميه علماء الاقتصاد "الاستبدال من جانب العرض" والدخول الجديد عبر التوسع العمودي. يحدث الاستبدال من جانب العرض عندما تكون الشركة التي تبيع منتجاً واحداً قادرة على استخدام أدوات الإنتاج لهذا المنتج لصنع منتج مختلف وبيعه. في قطاع التكنولوجيا، يُعتبر مثالاً حديثاً مشهوراً على ذلك هو شبكة "ثريدز" الخاصة بـ"إنستغرام" التابعة لشركة"ميتا". كان "إنستغرام" يركز على الفيديوهات والصور، لكن عندما بدا أن تويتر (المعروف الآن بـX) تحت إدارة إيلون ماسك ضعيفاً، قامت "ميتا" بتعديل عرض "إنستغرام" ليشمل خيار نشر النصوص والصور والفيديوهات مثل تويتر.
التوسع العمودي هو عندما تقوم شركة تبيع في مستوى واحد من سلسلة التوريد (مثل البيع بالجملة) بتمديد عرضها ليشمل جزءاً آخر من سلسلة التوريد نفسها. مثال على ذلك هو شركة أمازون التي تقدم خدمات الحوسبة السحابية لمزوّدي الذكاء الاصطناعي، ثم تقوم بإنشاء نموذج أساسي للذكاء الاصطناعي خاص بها ("تايتن").
في طريقة تفكير السياسيين المعارضين للتكنولوجيا، يُعتبر هذا إما أمراً مستحيلاً (حيث لا يُعترف عادة بالاستبدال من جانب العرض كمفهوم على الإطلاق) أو ضاراً بالمنافسة. ولكن كيف يمكن أن يكون من المنطقي أن نقول إذا كانت لدى شركة تقنية كبرى أخرى حصة سوقية تبلغ 80% في قطاع ما، ثم إذا دخلت شركة تقنية كبرى منافسة ذلك السوق لإنشاء بديل جديد ومهم (مثل "ثريدز" كبديل لتويتر)، فإن ذلك يعتبر ضاراً بالمنافسة؟
كانت وستظل هناك مشكلات تنافسية كبيرة في قطاع التكنولوجيا. ومع ذلك، يجب على السياسيين والمنظمين أن يكونوا حذرين ألا يدمروا مصدر رزقهم أثناء سعيهم لمعالجة هذه المشكلات.
يعد الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيات الناشئة الأخرى مفتاحاً للدول المتقدمة للخروج من حالة التباطؤ الاقتصادي التي عاشتها منذ أزمة الاقتصاد العالمي. يجب على شركات عمالقة التكنولوجيا ألّا تتقيّد كثيراً في محاولاتها لمساعدتنا جميعاً على تحقيق هذا الهروب.