أعلن البنك المركزي المصري، في بيان صحافي له يوم 6 آذار (مارس) 2024، رفع أسعار الفائدة على الجنيه 600 نقطة أساس (6%)، لتصل إلى متوسط 27.25%. وفي البيان نفسه أكد المركزي المصري أنه يستهدف التضخم كمرتكز أسمى للسياسة النقدية، وذلك من خلال "السماح لسعر الصرف بأن يتحدد وفقاً لآليات السوق"، ويعني ذلك أنه رسمياً تم التحرير الكامل لسعر صرف الجنيه المصري، لكن السوق المصرفية في مصر ظهرت عليها ملامح تشير إلى أن التعويم ليس حراً؛ بل مُدار من قبل لجنة السياسات النقدية في المركزي المصري.
وتجلت ملامح التعويم المُدار للجنيه في ثبات سعر صرف العملة المحلية في البنوك الكبرى مثل البنك الأهلي المصري (أكبر بنك حكومي بالدولة) وبنك مصر والبنك التجاري الدولي عند المستوى نفسه دون تغيّر لمدة تزيد على 48 ساعة، فعندما أعلن المركزي المصري ربط سعر صرف الجنيه بآليات العرض والطلب في السوق، قفز سعر الدولار حينها إلى ما يزيد على 50 جنيهاً في البنوك الرسمية، مقابل 31 جنيهاً قبيل إعلان تحرير سعر صرف الجنيه.
وسرعان ما تراجع السعر إلى 48 جنيهاً ثم 46 جنيهاً، وقبل اجتماع صندوق النقد يوم الجمعة الماضية 30 آذار (مارس) 2024 مع الحكومة المصرية، رفع البنك المركزي المصري وتبعته معظم البنوك العاملة بمصر سعر صرف الدولار مقابل الجنيه إلى 47.34 جنيهاً للشراء، و47.44 جنيهاً للبيع.
وفسّر بعض المتعاملين في السوق المالية المصرية هذه الزيادة المفاجئة في سعر صرف الجنيه مقابل الدولار بأنها خطوة استباقية من الحكومة المصرية؛ لإظهار الجدية في تطبيق قرار التحرير الكامل لسعر صرف الجنيه، وذلك لكسب ثقة لجنة صندوق النقد الدولي والحصول على موافقتها بمنح مصر القرض الجديد من الصندوق البالغة قيمته 8 مليارات دولار.
ورغم تأكيد رئيس اتحاد البنوك المصرية، ورئيس بنك مصر، محمد الإتربي، في تصريحات صحافية مع "العربية بيزنس" أن قرار البنك المركزي المصري هو "تحرير كامل لسعر صرف الجنيه المصري وليس تعويماً مُداراً"، إلا أن تثبيت السعر في جميع البنوك لأكثر من يوم، وعدم وجود فوارق في هامش السعر بين كل بنك وآخر، وكذلك تصريح محافظ البنك المركزي المصري حسن عبدالله، خلال الإعلان عن ربط سعر الجنيه بآليات السوق بأن البنك المركزي "سيتدخل على الفور في حالة حدوث تحركات غير منطقية على سعر صرف العملة المحلية"، كل ذلك يرجح احتمالية أن التعويم مُدار وليس حراً كما تزعم الحكومة المصرية.
ورجّح عضو هيئة التدريس المساعد بالجامعة الأميركية بالقاهرة ورئيس قسم الأبحاث في شركة بلتون المالية المصرية لتداول الأوراق المالية، هاني جنينة، في تصريحات خاصة لـ"النهار العربي"، أن يكون اتفاق الحكومة المصرية مع صندوق النقد الدولي بشأن الحصول على القرض الجديد تضمن تطبيق التحرير الكامل لسعر صرف الجنيه، ولكن على مراحل عدة وليست مرحلة واحدة.
وأورد مثلاً وهو ما حدث مع تركيا عام 2001، عندما تم تحرير سعر الليرة على مرحلتين وفق اتفاق بين أنقرة وصندوق النقد الدولي للحصول على قرض قيمته 16 مليار دولار، المرحلة الأولى كانت في 22 شباط (فبراير) 2001، وارتفع سعر الدولار مقابل الليرة التركية من 682.6 ألف ليرة لكل دولار واحد، إلى 1.159 مليون ليرة لكل دولار واحد بنسبة 69.8% في أول يوم من إعلان قرار التعويم، ثم في كانون الثاني (يناير) عام 2004 أعلن المركزي التركي تطبيق المرحلة الثانية من التعويم الحر لسعر الليرة ضمن خطته لاستهداف معدلات التضخم المرتفعة للهبوط بها من 20% إلى 12%.
وبالحديث عن الوضع بمصر يقول جنينة إن المرحلة الأولى في الاتفاق بين الحكومة المصرية وصندوق النقد حول تطبيق التحرير الكامل لسعر صرف الجنيه، كانت عبر استجابة مصر وإعلانها ربط سعر صرف الجنيه بآليات السوق وحركة العرض والطلب على العملة المصرية، لكن ذلك سيكون عبر تعويم مُدار حتى لا يحدث تذبذب عال في الأسعار، والغرض من ذلك جذب التمويلات الخارجية وإرسال رسالة لطمأنة المستثمرين الأجانب بأنه لا نية للتدخل الحكومي في سعر صرف العملة؛ لأن التدخل الحكومي لضبط سعر العملة المحلية عبر رفع قيمتها أو تثبيتها؛ يهدد بخفض قيمة الاستثمارات وأرباحها بالعملات الأجنبية.
وأضاف جنينة: "استهدفت أيضاً الحكومة المصرية من التعويم المدار استغلال التمويلات الأجنبية الوافدة إلى مصر في خفض الدين الخارجي، ثم تأتي المرحلة التالية بحسب الاتفاق مع الصندوق، وهذه الأمور من الصعب الإعلان عنها رسمياً، حيث يتم خلال السنة الثالثة من برنامج الإصلاح الاقتصادي بمصر الانتقال إلى سعر صرف مرن كلياً، وهو ما ستشهده مصر خلال الفترة المقبلة عبر تطبيق التعويم الكامل للجنيه المصري".
ويقول خبير أسواق المال وعضو مجلس إدارة شركة كايزن للاستشارات المالية عمرو وهيب، في تصريحات خاصة لـ"النهار العربي" إن "الجنيه المصري خسر تقريباً ثلث قيمته أمام الدولار الأميركي عقب قرار التعويم، بعدما استقر لفترة من الزمن عند مستوى سعر 31 جنيهاً تقريباً أمام الدولار، وساهم ذلك في كبح معدلات التضخم والتي وصلت لمستويات قياسية في مصر والقضاء معه على تراكم الطلب على الدولار، ومع استمرار الحكومة المصرية في سياسات ترشيد الإنفاق الحكومي خلال الفترة المقبلة، وتطبيق برنامج الطروحات الحكومية، قد تتخطى مصر التحديات الاقتصادية المتمثلة في خفض التضخم والدين العام وتوفير العملة الصعبة وتحقيق نمو اقتصادي شامل ومستدام، لكن هذا لن يحدث إلا عبر وجود سعر صرف حقيقي ومرن للجنيه المصري مقابل العملات الأجنبية الأخرى وليس الدولار الأميركي فقط، وبواسطة قوى العرض والطلب".
وتابع وهيب: "بناءً على ما سبق نرى أن ما اتخذه البنك المركزي المصري من قرارات لتحرير العملة ما هو إلا سعر صرف مرن، ولا نغفل أنه كان مطلباً رئيسياً لصندوق النقد، الذي وافق على منح الحكومة المصرية قرضاً مالياً مدته 46 شهراً بقيمة 3 مليارات دولار، تم زيادتها مؤخراً إلى 8 مليارات دولار.
وفي السياق نفسه، يقول صاحب شركة استيراد وتصدير بالقاهرة، طلب عدم ذكر اسمه، إن المستوردين لا يزالون يعانون عند طلب فتح اعتماد مستندي للاستيراد، وما حدث عقب إعلان صفقة رأس الحكمة مع دولة الإمارات واستلام مصر 10 مليارات دولار من قيمة الصفقة، هو فقط توفير السيولة للمستوردين للإفراج الجمركي عن بضائعهم المتراكمة بموانئ مصر، مشيراً إلى أن أغلب التجار يستوردون بسعر 90 جنيهاً للدولار الواحد، نظراً لأن أزمة سلاسل الإمداد والتوترات الجيوسياسية في البحر الأحمر وشرق أوروبا، أسفرت عن غلاء أسعار الشحن الدولي، قائلاً: "كنا ندفع رسوم شحن على الحاوية القادمة من الصين إلى مصر من 2 إلى 3 آلاف دولار، اليوم ندفع من 14 إلى 20 ألف دولار على الحاوية الواحدة".
مراحل تعويم الجنيه المصري
- تشرين الثاني (نوفمبر) 2016: مصر تتوصل لاتفاق مع صندوق النقد الدولي على برنامج إصلاح اقتصادي، يرافقه قرض مالي بقيمة 12 مليار دولار، وعليه أقرّت الحكومة المصرية تعويماً لسعر صرف الجنيه؛ لمواجهة السوق السوداء التي وصل سعر الدولار لديها إلى 22 جنيهاً مقارنة مع 8.8 جنيهات في السوق الرسمية، وعقب تطبيق القرار استقر السعر الرسمي للدولار عند متوسط 17 جنيهاً، ثم صعد الجنيه إلى متوسط 15.7 جنيهاً للدولار حتى مطلع 2022.
- الفترة بين 2017 – 2021: ثبتت الحكومة المصرية سعر العملة المحلية عند مستوى 17 جنيهاً لكل دولار واحد، حتى تفشي فيروس كوفيد-19 بنهاية عام 2021.
- آذار (مارس) 2022: البنك المركزي المصري يُعلن تحريك سعر صرف الجنيه هبوطاً إلى متوسط 18.5 جنيهاً لكل دولار.
- تشرين الأول (أكتوبر) 2022: أعلن البنك المركزي تحريك سعر الجنيه ليهبط لمستوى 19.3 جنيهاً لكل دولار، وذلك في إطار مساعي الحكومة المصرية للحصول على قرض بقيمة 3 مليارات دولار يصرف على شرائح لمدة 46 شهراً من صندوق النقد الدولي. وبنهاية الشهر، نفذت مصر تحريكاً جديداً لسعر صرف الجنيه، ليبلغ 24.3 جنيهاً لكل دولار، وهو السعر الذي أنهت به مصر عام 2022.
- مطلع 2023: أقرّ المركزي المصري تحريكاً إضافياً لسعر الجنيه ليهبط إلى مستوى 27.2 جنيهاً لكل دولار واحد، تبعه تحريكان ثان وثالث في سعر الصرف خلال النصف الثاني 2022، ليبلغ سعر صرف الدولار 31 جنيهاً.
- عام 2023: استقر سعر صرف الدولار عند 31 جنيهاً، بينما شهدت السوق الموازية قفزات متتالية بدءاً من 40 جنيهاً لكل دولار واحد، وصولاً إلى 70 جنيهاً حتى منتصف شباط (فبراير) الماضي.
- 6 آذار (مارس) 2024: المركزي المصري يُعلن ربط سعر صرف الجنيه بآليات السوق، ليهبط سعر الجنيه في البنوك من 31 جنيهاً لكل دولار واحد إلى 50.6 جنيهاً لكل دولار واحد، ثم بدأ الجنيه المصري في التعافي ويسجل حالياً 47.44 جنيهاً لكل دولار.