حين ترى كريستالينا جورجييفا تلتقي أحدا في أروقة أي مؤتمر، تلحظ على الفور دفء مشاعرها وأحضانها وقبلاتها غير المتكلفة. وإذا اقتربت منها وتحدثت معها بعيدا عن العمل، ستجد فيها "اختاً" أو "صديقة قريبة" -أو ربما "سيدة طيبة" إذا كنت أصغر سناً- وكأنما تعرفها منذ سنوات، ببساطتها ولطفها وإنسانيتها. وفور أن يتحول الحديث إلى جوانب فنية وعملية، ستجد خبيرة لا يشق لها غبار؛ لكنها تظل على مسافة غير بعيدة من العقل والقلب معاً.
يرى كثيرون ممن عرفوا مديرة صندوق النقد الدولي الحالية عن قرب، أن تلك التركيبة تعود بالأساس لنشأتها والتي مزجت الشرق بالغرب، تنشئة ودراسيا واجتماعيا. فهي ابنة عائلة مرموقة التعليم في بلد يعد فقيراً بشرق أوروبا وهو بلغاريا. وبالمناسبة فهي الأولى على الإطلاق التي تتولى مثل هذا المنصب من بلد في شرق أوروبا، والمرأة الثانية في تاريخ المنصب بعد كريستين لاغارد، محافظ المصرف المركزي الأوروبي الحالي.
وفي ظل أمور عدة، تنفرد غورغييفا حالياً كمرشحة وحيدة لاستكمال مسيرتها على رأس صندوق النقد الدولي. وبينما يستعد المجلس التنفيذي لمقابلة "شكلية" قبل منحها ولاية ثانية، فإن الكل يترقب خطواتها المقبلة.
ورغم الاعتراضات المعتادة التي تقودها دول ناشئة على وجه الخصوص طوال السنوات الماضية، سواء مكتومة أو معلنة، على استئثار أوروبا بمنصب مدير عام صندوق النقد الدولي، إلا أن الأصوات المعارضة قد تبدو خافتة هذه الدورة، مع استحسان كثير من الدول من خارج المنظومة الأوروبية لأداء جورجييفا خلال ولايتها الأولى. وربما لشعور كثيرين أنها أقرب إلى الشرق والدول الأقل ثروة من الدول العظمى.
ولدت كريستالينا إيفانوفا جورجييفا-كينوفا في صوفيا ببلغاريا، بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحديدا عام 1953، والدها كان مهندساً مدنياً، وجدها كان ثورياً وسياسياً شهيراً.
درست داخل البلاد حتى حصلت على الدكتوراه في علم الاقتصاد والماجستير في الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع من جامعة "كارل ماركس" آنذاك (أو جامعة الاقتصاد الوطني والعالمي في صوفيا كما سميت لاحقاً)، حيث كانت أستاذا مشاركا بين عامي 1977 و1993. وأثناء حياتها الأكاديمية، كانت زميلاً زائرا في كلية لندن للاقتصاد وفي معهد ماساتشوستس الأميركي للتكنولوجيا.
وخلال مسيرتها المهنية، عملت جورجييفا في مجال الخدمة العامة، ووصلت حتى منصب نائب لرئيس المفوضية الأوروبية لشؤون الميزانية والموارد البشرية، ثم عملت في البنك الدولي كخبير اقتصادي لشؤون البيئة في عام 1993. وبعد 17 عاما بلغت ذروة مسيرتها المهنية في البنك الدولي بتعيينها نائبا لرئيس مجموعة البنك الدولي وأميناً عاما للمجموعة في عام 2008. كما عملت مديراً منتدباً للبنك الدولي منذ كانون الأول (يناير) 2017 إلى أيلول (سبتمبر) 2019، كما عملت لثلاثة أشهر خلال تلك الفترة كرئيس مؤقت لمجموعة البنك الدولي.
وجدير بالذكر أن جورجييفا كانت أحد منافسي الأمين العام للأمم المتحدة الحالي أنطونيو غوتيريش في الترشح للمنصب في اقتراع عام 2016.
وفي عام 2010، منحتها مجلة "صوت أوروبا" لقب "أوروبية العام" و"مفوضة الاتحاد الأوروبي للعام" تقديرا لقيادتها عمل الاتحاد الأوروبي في مجال الاستجابة الإنسانية للأزمات. وفي تشرين الأول (أكتوبر) 2020، حصلت على جائزة القيادة الدولية المتميزة من المجلس الأطلسي اعترافاً بمساهماتها الاستثنائية والمتميزة على مدار حياتها العملية في مجال الخدمة العامة.
وبعيدا عن المستوى الإنساني والأكاديمي والمهني، فقد نجحت جورجييفا في إدارة أحد أهم المؤسسات المالية على مستوى العالم في فترة ربما تكون الأكثر حرجا في التاريخ الحديث من بعد الحرب العالمية الثانية، وهي فترة جائحة كورونا، حيث نجحت في توفير التمويل للدول الأعضاء خلال الجائحة، مع تقديم الصندوق تمويلاً سريعًا وكبيرًا للدول الأعضاء لمساعدتها على التعامل مع تداعيات الجائحة الاقتصادية، إضافة إلى مد يد العون والدعوات المتواصلة إلى التعاون الدولي لمواجهة الأزمة وتجنب التباعد الاقتصادي والاجتماعي الكبير.
واهتم الصندوق أيضاً في عهد جورجييفا بالقضايا المناخية والطاقات الخضراء، حيث أوصت بوضع سياسات موثوقة لتسعير الكربون بهدف تشجيع استخدام الطاقة الخضراء والتحول نحو اقتصاد أكثر استدامة.
ومن بين القضايا الاقتصادية الإنسانية الهامة، سلطت الضوء على قضية الظلم العرقي وضرورة توفير فرص اقتصادية عادلة للجميع، خاصة في ظل تداعيات جائحة كوفيد-19.
وفي ظل كل هذه العوامل، وفي بيان يوم الخميس، أعلن مجلس إدارة صندوق النقد الدولي أن جورجييفا هي المرشحة الوحيدة لشغل منصب المدير العام بعد انتهاء ولايتها الحالية. مشيرا إلى أن "فترة تقديم الترشيحات للمنصب انتهت الأربعاء الثالث من نيسان (أبريل) 2024"، وأنه "سيمضي قدما في عملية التعيين عبر مقابلة مع المرشحة الوحيدة، والتي يجريها معها أعضاء المجلس"، وأن "الهدف يكمن في إنجاز العملية في أسرع وقت ممكن، بحلول نهاية نيسان".