النهار

​الأتراك يترقّبون "ثمناً مؤلماً" لجذب الاستثمارات الأجنبيّة
سركيس قصارجيان
المصدر: النهار العربي
بعد جولاته الخليجية والأوروبية، وجّه وزير الخزانة والمالية التركي محمد شيمشيك أشرعته باتجاه الولايات المتّحدة في رحلة البحث عن الموارد المالية الخارجية والاستثمارات الأجنبية لإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة يوماً بعد يوم
​الأتراك يترقّبون "ثمناً مؤلماً" لجذب الاستثمارات الأجنبيّة
سوق البازار الكبير في مدينة اسطنبول التركية
A+   A-

بعد جولاته الخليجية والأوروبية، وجّه وزير الخزانة والمالية التركي محمد شيمشيك أشرعته باتجاه الولايات المتّحدة في رحلة البحث عن الموارد المالية الخارجية والاستثمارات الأجنبية لإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية المتفاقمة يوماً بعد يوم.

 

في واشنطن ونيويورك، عقد شيمشيك والوفد الاقتصادي المرافق له اجتماعات مكثّفة مع المستثمرين الأجانب وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وذلك خلال يومي 18 و19 نيسان (أبريل)، لإقناعهم بعزم الفريق الاقتصادي على المضي قدماً في برنامجه المالي والنقدي المعلن عنه بعد الانتخابات الرئاسية في أيار (مايو) الماضي.

 

القروض الدولية جددت الثقة

أعلن المركزي التركي أن خسائره لعام 2023 بلغت 818 مليار ليرة تركية (ما يعادل نحو 30 مليار دولار حسب سعر صرف نهاية العام). ومنذ بداية العام الحالي تراجع إجمالي احتياطات المركزي التركي من النقد الأجنبي بنحو 29 مليار دولار في الفترة من 22 كانون الأول (ديسمبر) إلى 29 آذار (مارس) الماضي، وبلغ الانخفاض في إجمالي أصول النقد الأجنبي في شهر آذار وحده 11.8 مليار دولار.

أدّى الطلب المتزايد على النقد الأجنبي من قبل المستثمرين المحليين والأجانب قبل الانتخابات المحلية إلى تراجع الاحتياطيات، التي تم إنفاقها للتدخل في السوق بهدف ضبط ارتفاع أسعار الصرف.

وتعد احتياطيات النقد الأجنبي أهم مؤشر على قدرة الدولة في مواصلة سداد ديونها الخارجية في الأوقات الصعبة، حيث يتم استخدام هذه الاحتياطيات في حال تعذّر الحكومة من جمع العملات الأجنبية من السوق خلال أوقات استحقاق سداد الديون أو فوائدها، أو سداد فواتير استيراد السلع الحيوية كالطاقة مثلاً، أي بمعنى آخر يشير كم الاحتياطيات إلى مستوى مخاطر دخول دولة ما في أزمة سداد الديون والمستحقات من عدمه.

 

وبناءً على ذلك، يجب أن يكون في خزانة البنك المركزي التركي قدراً من الاحتياطيات يعادل الدين الخارجي الواجب على تركيا سداده في غضون عام. وبحسب بيانات المركزي التركي، بلغ إجمالي الديون الخارجية القصيرة الأجل لتركيا 174.9 مليار دولار حتى نهاية كانون الثاني (يناير) الماضي، وهو مبلغ غير متوفر في خزانة البنك المركزي حالياً.

ويشرح الخبير الاقتصادي التركي د. تورغاي بوز أوغلو في تصريحاته إلى "النهار العربي"، قائلاً: "حين تولّى وزير الخزانة والمالية محمد شيمشيك منصبه، كانت تركيا تعاني عجزاً كبيراً جداً في الحساب الجاري، وعجزاً كبيراً في الميزانية، وتضخّماً مرتفعاً".

وبرأي بوز أوغلو "لم يتم إحراز تقدم كبير في هذا الصدد حتى الآن. على الرغم من أن رفع أسعار الفائدة وإعلان سياسة نقدية جديدة، لم تجتذب بعد الكثير من اهتمام الأجانب إلى تركيا، إلا أنه كان هناك تحسّن، خاصة في تدفقات المحافظ بعد الانتخابات، أو بالأحرى أرى وضعاً إيجابياً".

 

ويعتقد بوز أوغلو "أن قروض مشاريع البنك الدولي جددت الثقة بالفريق الاقتصادي. وبالطبع سترتفع عائدات السياحة أيضاً في تركيا خلال موسم الصيف. وسنشهد أيضاً انخفاضاً في معدل التضخم في شهري تموز (يوليو) وآب (أغسطس) القادمين بالنتيجة".

 

 

سياسات نقدية أكثر حزماً

مع وصول الفريق الاقتصادي الجديد بعد الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أيار الماضي برئاسة محمد شيمشيك، وإعلان العودة إلى السياسات التقليدية وإجراءات شد الأحزمة، استبشر الأتراك خيراً في أن التحوّل من "السياسات الاقتصادية الانتخابية" إلى "السياسات الواقعية" سيؤدي لجذب الاستثمارات الأجنبية التي هربت من السوق التركية نتيجة عدم ثبات الواقع الاقتصادي من جهة، وعدم وضوح الرؤية الاقتصادية للحكومة التركية من جهة أخرى.

وعلى عكس تأكيدات الرئيس التركي عزمه مواصلة حربه على الفائدة، أعطى الرفع المتسارع لأسعار الفائدة من 8.5% إلى 50% خلال أقل من عام إشارات على جدّية الفريق الاقتصادي الجديد في تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية.

يقول بوز أوغلو، الذي عمل كنائب للمدير العام لمديرية الموازنة والرقابة المالية التركية: "أكثر ما لفت انتباهي في كلمات وزير المالية والخزانة محمد شيمشك ومحافظ البنك المركزي خلال مشاركتهما في الحدث الفصلي الذي تم تنظيمه في نطاق اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، تقديمهما بعض الوعود في ما يتعلق بالسياسة المالية، والتي لم يتم الحديث عنها كثيراً قبل الانتخابات المحلية".

ويشرح بوز أوغلو، المحاضر في الاقتصاد بعدد من الجامعات التركية أن "المستثمرين الأجانب لم يبدوا اهتماماً كبيراً بتركيا في الفترة الماضية، أي منذ تولي الإدارة الاقتصادية الجديدة لمنصبها، ويبدو أن البرنامج الاقتصادي الذي تم تنفيذه ركّز على السياسة النقدية، فيما بقيت ركيزة السياسة المالية مفقودة، حيث لم يتم فعل أي شيء بشأنها عدا زيادة الضرائب غير المباشرة، إلا أن وعود وزير المالية في هذه الاجتماعات، وخاصة المتعلّقة بضغط النفقات العامة، وما يعنيه من وجود برنامج لمكافحة التضخم، رسالة بأن "البرنامج الجديد" لن يقتصر على السياسة النقدية فحسب، بل إن الحكومة عازمة على النجاح في جانب السياسة المالية أيضاً. وهذه الرسائل موجّهة لاكتساب ثقة المستثمرين الأجانب".

 

ويسعى فريق شيمشيك إلى ضبط الإنفاق العام وقلب سياسات "الصرف الانتخابي" و"التوظيف الانتخابي" التي انتهجها الرئيس التركي خلال السنوات الماضية كوسيلة ناجعة للفوز بالاستحقاقات الانتخابية.

ويتوقع بوز أوغلو أن ينمو الاقتصاد التركي بحوالي 3% في عام 2024، "وهو بالطبع ليس رقم نمو كافياً لتركيا، وسوف نشهد زيادة في معدلات البطالة. ستكون فترة صعبة، خاصة بالنسبة للموظفين والعاملين بالأجور. وتعتمد صلاحية هذه السياسة على الثقة الخارجية ومدخلات الموارد الخارجية".

 

بانتظار الاستثمارات الخارجية

على الرغم من وصول سعر الفائدة إلى 50%، مع توقّعات برفعها 500 نقطة أساس يوم الأربعاء القادم لتبلغ 55%، إلا أن الخبراء الأتراك يجمعون تقريباً على أن رفع الفائدة وحده لا يكفي لتأمين تدفق رأس المال الأجنبي، مشترطين أن يترافق الرفع مع "انضباط مالي" قائم على تقييد النفقات العامة، وفق الوعود الحكومية.

وبرأي بوز أوغلو، فإن "هناك أسباباً متعددة لعدم نجاح سياسة رفع سعر الفائدة في جذب عدد كافٍ من المستثمرين الأجانب. لا يقتنع المستثمرون الداخليون ولا المستثمرون الخارجيون بأن التضخم سينخفض إلى المستوى الهدف، كما أنّهم فضّلوا الانتظار إلى ما بعد الانتخابات للتحقق ما إذا كان سيكون هناك تغيير في السياسات الاقتصادية بعد الانتخابات المحلية".

مضيفاً أن "التصريحات التي أدلى بها الفريق الاقتصادي، كعدم وجود زيادة في الحد الأدنى للأجور ووعدم وجود نيّة لرفع معاشات المتقاعدين تشير إلى استمرار سياسات التضييق المشدد النقدية، وقد يرضي هذا، إلى جانب زيادة طفيفة في أسعار الفائدة، المستثمرين الأجانب".

 

فاتورة باهظة للمواطن التركي

بات من المؤكد توجّه الحكومة نحو تدابير مؤلمة للمواطن التركي مثل الزيادات في معدلات الضرائب، وإلغاء الإعفاءات المختلفة من ضريبة القيمة المضافة، وزيادة القيود على أقساط بطاقات الائتمان، وزيادة أسعار الفائدة على السحب النقدي، ما سيولّد تباطؤاً في القطاع الصناعي وانخفاضاً حاداً في الطلب المحلي، وهذا يعني أن معيشة الموظفين والمتقاعدين الأتراك ستزداد صعوبة يوماً بعد يوم.

بالإضافة إلى ذلك يعتقد بوز أوغلو أن "تشديد السياسة النقدية والقروض سوف يؤثر سلباً على النمو، وسوف ترتفع أرقام البطالة، وقد أدى ارتفاع معدلات التضخم إلى خلل في توزيع الدخل في البلاد، وأعتقد أنه في بلد يعاني سوء توزيع الدخل، فإن وضع مثل هذا العبء على الطبقات الاجتماعية، وخاصة على الموظفين، سيزيد من الاضطرابات الاجتماعية".

تشير آخر الأرقام إلى أن 52% من القوى العاملة في تركيا تعمل بالحد الأدنى للأجور والرواتب، كما أن ما يقل عن ربع المواطنين بقليل (حوالي 20 مليون شخص) يتلقون مساعدات اجتماعية مباشرة من الدولة، ويعاني 8 ملايين طفل الفقر المالي.

وبرأي بوز أغلو "تحتاج الفئات ذات الدخل المنخفض بالتأكيد إلى الدعم. ولكي نصلح الاقتصاد، يجب حماية الفئات ذات الدخل المنخفض خاصة، وهذا من الواجبات المهمة للدولة. سيتعين على تركيا التغلب على أخطاء الماضي، أي الخروج من مشكلات ارتفاع التضخم وارتفاع عجز الحساب الجاري وارتفاع عجز الموازنة، والتركيز على الإنتاج والتوزيع، وخاصة الإنتاج ذا القيمة المضافة العالية، وإلا فإن مشكلة العجز في الحساب الجاري سوف تستمر في ابتلاء تركيا المزمن".

وينهي بوز أوغلو حديثه إلى "النهار العربي" بالقول "على الساسة أيضاً التخلي عن أساليب مثل تحقيق بعض النمو عن طريق تحويل الثروة من خلال التحويلات الائتمانية الرخيصة، وهو ما نطلق عليه تسمية التوسع النقدي والنمو السيئ. وإلا فإن تركيا ستستمر في صراعها في قلب هذه الدوامة".

اقرأ في النهار Premium