يبدو أن الوضع الاقتصادي في ليبيا يتجه نحو مزيد من التعقيد مع اتجاه الأطراف المتصارعين على السلطة إلى ساحات القضاء لحسم نزاعاتهم.
فبعد نحو شهر من قرار مجلس النواب الليبي، بطلب من المصرف المركزي، تطبيق رسم ضريبي بقيمة 27 في المئة على سعر الصرف الرسمي للعملات الأجنبية، أمرت محكمة استئناف في جنوب العاصمة طرابلس بوقف تنفيذه موقتاً، بعدما قبلت طعناً قدمه رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، الأمر الذي أثار تساؤلات بشأن مصير الضريبة على الصرف، وما إن كانت السلطات المالية، خصوصاً في شرق ليبيا وجنوبها، ستتمسك بتطبيقها أم لا.
هل يُنفَّذ الحكم؟
أستاذ الاقتصاد مختار أجدير رجح ألا يلتزم المصرف المركزي في العاصمة طرابلس بتطبيق الحكم القضائي، بحجة أن وقف التنفيذ جاء موقتاً في الشق المستعجل إلى حين النظر في القضية، وربما يلجأ أيضاً إلى الاستئناف على الحكم القضائي لإلغائه. وأضاف لـ"النهار العربي": "ثمة سيناريو آخر بأن يُطبق المركزي الحكم القضائي ويوقف تنفيذ الضريبة على الصرف ليعود سعر صرف الدولار إلى حدود 4.5 دينارات، لكن مع تقييد المعاملات وفتح الاعتمادات الدولارية بشكل محدود، في ظل النقص الحاد في العملات الأجنبية في السوق الرسمية".
وحذر جدير من أن هذا "التضارب في التعاطي مع القرارات المالية في الدولة الليبية سيحدث ارتباكاً عنيفاً في الأسواق، وسينعكس مزيداً من الانهيارات للعملة المحلية، إذ قد يصل سعر صرف الدولار في السوق الموازية التي يعتمد عليها غالبية المستوردين إلى مستويات غير مسبوقة قد تراوح بين 8 و9 دينارات للدولار الواحد"، مؤكداً أن "أزمة العملة في ليبيا هي عرض لأمراض مستفحلة في الاقتصاد الليبي، على رأسها الإنفاق الحكومي المتضخم والفساد المستشري والتهريب، وكان على السلطة العمل على معالجة تلك الأمراض، لكنها ذهبت إلى أسهل الحلول بفرض ضريبة على أسعار الصرف، وهي الخطوة التي ثبت مع تطبيقها عدم نجاعتها في لجم السوق الموازية".
الصديق الكبير والدبيبة في لقاء سابق.
أزمة الـ 50 ديناراً
الحكم القضائي جاء بعد أيام قليلة من قرار رسمي أصدره محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير، بالبدء في إجراءات لسحب فئة الـ50 ديناراً من السوق الليبي بعد تأكيد تزوير بعضها، وهو القرار الذي أثار جدلاً واسعاً في الشارع الليبي، وتساؤلات في شأن إمكان تطبيق مصارف شرق ليبيا وجنوبها القرار في بلد يعصف الانقسام بمؤسساته، وتتحكم المناكفات بين الفرقاء في صنع قراراته الحيوية.
وألزم المركزي في قراره المصارف الليبية بسحب فئة الخمسين ديناراً من التداول ابتداءً من الأحد الماضي وحتى نهاية آب (أغسطس) المقبل، وقبول العملة المسحوبة من التداول من الزبائن وإضافتها إلى الحسابات الجارية، داعياً المصارف التجارية إلى "إيداع المبالغ في حساباتها لدى المصرف المركزي"، قبل أن ينشر المصرف المركزي، الأحد الماضي، بياناً مصوراً أوضح فيه الفارق بين النسخ المزورة والصحيحة لعملة الخمسين ديناراً، مؤكداً وجود أربع نسخ منها، وموضحاً أنه "يمكن التمييز بين العملة المزيفة والحقيقة بالعين المجردة. إذ إن النسختين الأولى والثانية، واللتين تحملان توقيع الكبير في الأولى، ونائبه السابق علي الحبري، بالإمكان تمييزهما بوجود الشكل الملون، وانعكاسه الواضح عند تعريض العملة للضوء".
وأوضح المصرف أنه "يمكن ملاحظة الأرقام التسلسلية العمودية والأفقية التي تتخذ شكلاً تصاعدياً في الحجم في النسخة الأصلية. كما يمكن التمييز في ما بينها بمقارنة ملمسها، إذ إن العملة المعتمدة أكثر مرونة من العملة المزورة".
أما النسخة الثالثة المزورة، والتي تحمل أيضاً توقيع الحبري، والمعنونة بإصدار يحمل الرقم اثنين، وتبدو عالية الجودة، فلها مواصفات وخصائص مختلفة عن الإصدارات الصحيحة. كما تحمل النسخة الرابعة المزورة أيضاً توقيع الحبري، والمعنونة بإصدار يحمل الرقم اثنين أيضاً، ويمكن اكتشافها باستخدام الماسحة الضوئية أو نسخها عن طريق التصوير المستندي، وإضافة شريط فضي عليها.
ولفت المصرف في بيانه إلى وجود نوع رديء من النسخ المزورة، ويمكن تمييزه بسهولة، وأنه بفحص الإصدارات الأربعة تحت الأشعة فوق البنفسجية، تبدو الفروق، فالعملة المعتمدة تحوي شكلاً داخلياً بنقاط حمراء في الفئة الصادرة عن شركة "دينار" الإنكليزية. كما أن الأرقام التسلسلية تظهر مضيئة في العملة الصحيحة على عكس العملات المزورة المجهولة المصدر. ويمكن الاعتماد أيضاً على لون النص الموجود على عنوان العملة الصحيحة، إذ تجده باللون الأسود في تباين واضح بينه وبين الشكل المحيط به، بينما ينعدم هذا التباين في العملة المزورة المجهولة المصدر، إذ تبدو باللون الأخضر.
وأوضح أجدير أن "أزمة الخمسين ديناراً المزورة بدأت مع نقص السيولة والعملة الأجنبية في المصرف المركزي والتي أدت إلى ارتفاع أسعار الدولار في السوق الموازية إلى ما يزيد عن 7 دنانير"، مستغرباً "التأخر لشهور في اتخاذ خطوات لسحب تلك العملة من الأسواق". وأضاف: "في كل الدول هناك عملات مزيفة، لكن هل يُعقل أن يؤثر تداول تلك العملة على أسعار صرف العملات الأجنبية؟ المركزي الليبي يتحدث عن تداول بكميات مهولة، وهو ما ستتضح صحته من عدمها مع نهاية فترة سحب تلك العملات من الأسواق في مطلع أيلول (سبتمبر) المقبل". وأضاف: "يُفترض أنه مع الحديث عن كميات كبيرة من العملات المزيفة في الأسواق أن تتحرك الأجهزة الأمنية والقضائية للتحقيق في الأمر، وهو ما لم يحدث، الأمر الذي يزيد من الشكوك بشأن واقعية الطرح... المصرف المركزي خلق فوضى في الأسواق، وأزمة ثقة بمؤسسات ليبيا وعملتها المحلية".
تضارب البيانات المالية
وتطرق أجدير إلى معضلة التشابك بين الأزمة السياسية المتفاقمة في ليبيا والوضع الاقتصادي، مشيراً إلى تضارب في التصريحات والبيانات المالية بين ما يقدمه المصرف المركزي وما تطرحه الحكومتان المتصارعتان في الشرق والغرب.
وأوضح أن "عام 2023 شهد ارتفاعاً في مبيعات النفط وصل إلى نحو 26 مليار دولار، بعدما كانت 21 مليار دولار في 2022، الأمر الذي ساهم في ارتفاع الناتج المحلي لليبيا الذي يعتمد على إنتاج النفط بنحو 70 في المئة، لكن ارتفاع تدفقات النقد الأجنبي عجز عن مواجهة التضخم في الإنفاق من قبل الحكومتين"، محذراً من "استمرار الاستقطاب الحاصل بين من يتحكمون في مشهد البلاد الاقتصادي والمالي". وحمّل مسؤولية ما وصل إليه الوضع الاقتصادي الذي يعانيه المواطن الليبي للأطراف كافة: محافظ المصرف المركزي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية وخصمه رئيس الحكومة الموازية في الشرق، "في ظل استمرار الصراع على السلطة والانقسام السياسي، وعلى الأطراف المتصارعة أن تتحمل في الحد الأدنى مسؤوليتها في الحفاظ على مستوى معيشي جيد للمواطنين ولجم انهيار العملة المحلية".