على مدى السنوات القليلة الماضية، ربطت مجموعة كبيرة من الأبحاث تغير المناخ بالنتائج الصحية الضارة في جميع أنحاء العالم، خاصة في فئات العمال الذين يكونون أكثر عرضة لمخاطر على غرار الحرارة الشديدة، وانخفاض جودة الهواء، والطقس القاسي، والأمراض المعدية، والملوثات البيئية.
كما أن التعرض غير المتناسب للظروف المعاكسة المرتبطة بتغير المناخ يمكن أن يؤدي إلى تفاقم مشكلات الصحة والسلامة الحالية بين بعض العمال، ويمكن أن يسبب أضراراً جديدة وغير متوقعة. ومن جانب آخر قد تؤدي حالات التعرض هذه إلى الإجهاد الحراري وغيره من الأمراض المرتبطة بالحرارة، والإصابات والوفيات المهنية، والالتهابات والأمراض، والظروف الصحية الناجمة عن التعرض للمخاطر البيولوجية، فضلاً عن التأثير السلبي على الصحة العقلية. كما أنها قد تحد من إنتاجية العامل وتساهم في التكاليف الإضافية المرتبطة بمرض العامل أو إصابته.
هذا التغيّر وتأثيره أظهرته النتائج التي توصلت إليها منظمة العمل الدولية، إحدى وكالات الأمم المتحدة في تقريرها تحت عنوان "ضمان السلامة والصحة في العمل في مناخ متغير". ويسلط التقرير #SafeDay لعام 2024 الضوء على الواقع المزعج للعمال الذين يواجهون تعرضاً متزايداً للمخاطر المرتبطة بتغير المناخ في أماكن عملهم، وهو اتجاه من المتوقع أن يتفاقم.
وتبرز أزمة المناخ باعتبارها مصدر قلق بالغ وتتجاوز الحدود لتؤثر على الاقتصادات عبر القارات، وتؤثر على كل من الدول المتقدمة والنامية، بينما تؤثر مباشرة على الوظائف والقوى العاملة.
يواجه أكثر من 70% من العمال في جميع أنحاء العالم مخاطر صحية مرتبطة بهذه الظاهرة، مع احتمال تعرض أكثر من 2.4 مليار شخص للحرارة المفرطة أثناء العمل. ويشير التقرير إلى أن ما يقدر بنحو 18970 شخصاً يفقدون أرواحهم كل عام بسبب الإصابات المهنية التي تعزى إلى الحرارة المفرطة، ويعيش أكثر من 26.2 مليون شخص مع أمراض الكلى المزمنة المرتبطة بالإجهاد الحراري في مكان العمل.
كما يموت أكثر من 860 ألف عامل في الهواء الطلق سنوياً بسبب التعرض لتلوث الهواء، ويموت ما يقرب من 19 ألف شخص كل عام بسبب سرطان الجلد بسبب التعرض للأشعة فوق البنفسجية الشمسية، ومع ارتفاع متوسط درجات الحرارة، تعد الأمراض الناجمة عن الحرارة مصدر قلق متزايداً في ما يتعلق بسلامة العمال وصحتهم في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة. وتشير تقديرات مكتب إحصاءات العمل إلى أن التعرض للحرارة البيئية أودى بحياة 36 عاملاً في عام 2021، و56 في عام 2020.
و
وأدى التعرض للحرارة البيئية إلى مقتل 999 عاملاً أميركياً في الفترة من 1992 إلى 2021، بمتوسط 33 حالة وفاة سنوياً، وفقاً لوزارة العمل. ومع ذلك ذكرت الوكالة أن الإحصائيات الخاصة بالأمراض والإصابات والوفيات المرتبطة بالحرارة المهنية من المرجح أن تكون "أقل من الواقع إلى حد كبير"، ويسلط التقرير الضوء على أنه بالنسبة للشركات وأصحاب العمل، هناك تكاليف كبيرة يجب أخذها في الاعتبار. على سبيل المثال يخسر أصحاب العمل في المملكة المتحدة وحدها ما يصل إلى 45 مليار جنيه إسترليني سنوياً بسبب ضعف الصحة العقلية بين القوى العاملة لديهم بحسب تقرير نُشر في "ديلويت" خلال عام 2020، ومن المتوقع أن يزداد الأمر سوءاً في مواجهة الكوارث المناخية المتزايدة.
وفي السياق توضّح د. إيمان عبد العظيم عبد الرحمن، رئيسة منتدى البيئة وتغير المناخ ومؤسسة مبادرة منصة الوسط البيئي، خلال مقابلتها مع "النهار العربي"، فئات العمالة المتأثرة بتداعيات تغير المناخ، وقالت: "تتأثر النساء، خاصة في المناطق الجافة وشبة الجافة من خلال المضاعفات المرتبطة بالحمل، بارتفاع ضغط الدم والإجهاض ووفاة المولود. كما يتأثر الرجال، إذ يقوم بعضهم بأعمال يدوية ثقيلة، على سبيل المثال في البناء والزراعة في ظروف حارة. وعن فئة الشباب قد يكونون أكثر عرضة لمخاطر تغير المناخ من كبار السن لأنهم قد يفتقرون إلى النضج والمهارات والتدريب والخبرة. أما كبار السن فهم أقل قدرة على تحمل التوتر بسبب بطء عملية التمثيل الغذائي وضعف جهاز المناعة وزيادة عبء المرض. كذلك قد يواجه العمال ذوو الهمم (ذوو الاحتياجات الخاصة) والعمال الذين يعانون أمراضاً سابقة وأمراضاً مزمنة والعمالة المهاجرة، جوانب من خطورة التغير المناخي أكثر من غيرهم نتيجة لظروفهم الصحية والاجتماعية المصاحبة للظواهر الجوية المتطرفة أو حالات الطوارئ المتعلقة بالمناخ".
ومن جانبه، وخلال مقابلته مع "النهار العربي"، يشرح خبير التغيّر المناخي في القطاع الصحي الدكتور يعرب العجلوني قائلاً: "يمكن أن تؤدي الكوارث الطبيعية في كثير من الأحيان إلى أضرار مادية في أماكن العمل والبنية التحتية والمعدات، ما يعرّض سلامة الموظفين للخطر. إن نزوح العمال وتعطيل شبكات النقل يجعل من الصعب على الموظفين التنقل للعمل بأمان. يمكن لأوامر الإخلاء وإغلاق الطرق أن تعيق الوصول إلى أماكن العمل، فيما البنية التحتية المتضررة قد تعيق جهود الاستجابة لحالات الطوارئ، تترتب على التغير المناخي تداعيات عديدة على بنية العمل، حيث يشكل العامل حجراً أساسياً في هذا السياق".
ويشير الدكتور العجلوني إلى "لزوم اتخاذ إجراءات جديدة من قبل الدول والمؤسسات الاقتصادية، منها زيادة الوعي وتعزيز قدرات العمال من خلال التدريب على مهارات العمل المناسبة لظروف التغير المناخي الحالية والمستقبلية".
ومن المتوقع انقراض العديد من المهن التقليدية وظهور مهن جديدة بسبب التغير المناخي، ما يستدعي تطوير مهارات جديدة وإمكانية التقاعد المبكر للعمال في المهن التي لم تعد ضرورية للاقتصاد.
وفي هذا الإطار يُنبّه العجلوني من أنّ "هذه التحولات تتطلب تقييماً شاملاً للتشريعات العملية من قبل الحكومات والدول، بما في ذلك تحسين ظروف العمل وبيئته وتعديل سياسات السلامة العامة لتتماشى مع احتياجات الشركات والموظفين، كما ينبغي تعديل قوانين وأنظمة التأمين ضد الحوادث العملية لتشمل الإصابات المرتبطة بالتغير المناخي والتي تتطلب تعويضات أو إعانات تقاعد، ووجوب توسيع نطاق الرعاية الصحية لتشمل الأمراض المرتبطة بالتغير المناخي، بحيث يتم تغطية تكاليف العلاج ضمن نظام صحي شامل، لتحسين جودة حياة العمال وتقليل مخاطر الإصابات والأمراض المزمنة المرتبطة بالتغير المناخي، كما ينبغي تقليص ساعات العمل المباشرة، وزيادة الوقت المخصص للترفيه واللياقة البدنية، وتوجيه العمال نحو أنشطة ترفيهية تعزز صحتهم وسعادتهم، بحيث يقل تعرضهم للإصابات والأمراض المزمنة المرتبطة بالتغير المناخي".
وعن الإجراءات المطلوبة لحماية الفئات العاملة المذكورة من تداعيات تغير المناخ، ترى د. إيمان، أولاً، ضرورة توفير قاعدة بيانات "جغرافيا صحية" للعمال في مختلف المجالات، تقودها منظمة العمل الدولية للحماية وتوجيه الاستجابة لحقوق العمال من المخاطر الطبيعية عامةً، وخاصة التغيرات المناخية.
وثانياً، يجب أن تكون سياسات الصحة والسلامة المهنية الحالية مرتبطة بتغير المناخ إلى جانب أدوات الحماية من التعرض للأشعة فوق البنفسجية في أماكن العمل. وثالثاً، فإن بناء القدرات للعمال والحوار الاجتماعي هو الأساس من أجل استجابة فعالة للسلامة والصحة المهنية في عالم العمل المتغير.
وتدعو د. إيمان رابعاً إلى الانتباه إلى احتياجات العمال في الفئات الأكثر ضعفاً، إذ ينبغي النظر في ظروف بعض مجموعات العمال، خاصة الأكثر عرضة لآثار تغير المناخ والتي قد تحتاج إلى تدابير وقائية إضافية (مثلاً: نوعيات من الملابس الوقائية أو كريمات الشمس). كما تشير خامساً إلى متابعة أحداث الطقس المتطرفة حول العالم والاستجابات للظواهر الجوية المتطرفة، حيث إن المعاهدات والأطر الدولية واللجان، تهتم اهنماماً رئيسياً بالكوارث من حيث الاستعداد والاستجابة. ويجب أن يكون ذلك أيضاً على حوادث الطقس المتطرفة كجزء طارئ وهام للتغيرات المناخية وتوقف سير العمل وتعرض العمال للمخاطر.
وأخيراً، أوضحت د. إيمان أن التنسيق بين الإدارات داخل الحكومات هو حجر الزاوية في العمل المتماسك، وينبغي تنسيق سياسات وبرامج الصحة والسلامة المهنية بين الدوائر الحكومية، بما في ذلك وزارات العمل ووزارات الصحة لضمان تماسك السياسات الخاصة بتغير المناخ حرصاً على السلامة الصحية للعمال والجمهور.