وقف العشرات من مروضي الدببة والثيران أمام شاشات "وول ستريت" في منتصف نيسان (أبريل) الماضي وهم يحبسون أنفاسهم وحدقات أعينهم مفتوحة وآذانهم صاغية إلى كلمة رئيس الاحتياطي الفدرالي الأميركي جيروم باول، أثناء منتدى سياسي يركز على العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وكندا التي جاءت صادمة لكثير منهم. فقد لمّح باول إلى تأجيل بدء خفض أسعار الفائدة مع ارتفاع التضخم قائلاً: "بينما يستمر التضخم في الانخفاض، فإنه لم يتحرك بسرعة كافية، وينبغي أن تظل الحالة الحالية للسياسة على حالها"، فكيف سيؤثر انخفاض تأجيل أسعار الفائدة على نمو اقتصادات البلدان العربية؟
أبقى بنك الاحتياطي الفدرالي (المركزي الأميركي) منذ تموز (يوليو) 2023 سعر الفائدة القياسي في نطاق مستهدف بين 5.25% و 5.5%، وهو الأعلى منذ 23 عاماً. وكان ذلك نتيجة 11 زيادة متتالية في أسعار الفائدة بدأت في آذار (مارس) 2022. (عندما يرتفع معدل التضخم، تلجأ البنوك المركزية إلى رفع سعر الفائدة وسعر الفائدة هو العائد على الأموال التي تضعها أو تقترضها البنوك لدى البنك المركزي لليلة واحدة أو أكثر، وترفع البنوك المركزية الفائدة بهدف امتصاص السيولة النقدية من الأسواق؛ لأن المستثمر سيفضل إيداع أمواله لدى البنك مقابل الحصول على فائدة مرتفعة وشبه مضمونة عليها، عوضاً عن استثمارها في السوق وتحمل مخاطر الاستثمار، وعليه تشهد الأسواق هبوط وتيرة الإنفاق بكل أنواعه وانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين وانحصارها بالضروريات، ما يسفر عن انخفاض في قيمة السلع والخدمات وبالتبعية يتراجع معدل التضخم).
نجحت سياسة التشديد النقدي التي اتبعها باول في خفض معدل التضخم الأميركي من 9% منتصف عام 2022 إلى 3.5% خلال آذار الماضي، وهو أعلى من توقعات السوق البالغة 3.4%، كما أنه لا يزال بعيداً عن معدل التضخم المستهدف وهو 2%، ورغم أن معدل التضخم الأميركي شهد تحسناً كبيراً، إلا أن جيروم باول يقول إن "البيانات الأخيرة لم تمنحنا ثقة كبيرة، لذلك يمكننا الحفاظ على المستوى الحالي من القيود ما دعت الحاجة".
وهو ما أيدته رئيسة الفدرالي الأميركي في دالاس، لوري لوغان، في تصريح لها أدلت به يوم الجمعة الماضي خلال المؤتمر السنوي لرابطة المصرفيين في لويزيانا، قائلة إنه "لم يتضح بعد ما إذا كان قد تم تشديد السياسة النقدية بالقدر الكافي لخفض التضخم إلى نسبة 2% المستهدفة، لذلك من السابق لأوانه خفض أسعار الفائدة".
وحذّرت النائبة الأولى للمدير العام لصندوق النقد الدولي غيتا جوبيناث، في تصريح لها خلال كانون الثاني (يناير) الماضي البنوك المركزية من خفض أسعار الفائدة خلال عام 2024؛ إذ إن توقعات السوق بشأن سياسة نقدية أكثر مرونة يمكن أن تؤدي إلى اندلاع موجة أخرى من التضخم، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى نتائج عكسية.
متى يخفض الفدرالي الأميركي الفائدة؟
ويتوقع بنك غولدمان ساكس الأميركي في بيان له نشره موقع "ذا ستريت" (The Street)، أن الفدرالي الأميركي لن يتخلى عن سياسة التشديد النقدي ويُعلن خفض الفائدة قبل شهر تموز، وربما أيلول (سبتمبر) المقبلين، فيما اعتبرت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغيفا خلال كلمتها في منتدى التنمية الصيني في بكين يوم 24 آذار الماضي، أن استمرار أسعار الفائدة المرتفعة لفترة طويلة "مُقلق في ما يتعلق بالاستقرار المالي".
وعن تأثير تأجيل خفض الفائدة على اقتصادات البلدان العربية، يقول خبير أسواق المال وعضو مجلس إدارة شركة كايزن للاستشارات المالية المصرية عمرو وهيب، إن الأسواق العربية ستتأثر سلباً في حال استمرار الفائدة المرتفعة؛ لأن الفائدة المرتفعة ستجذب المستثمر نحو الأوعية الادخارية ذات العوائد الثابتة المرتفعة مثل أدوات الدين البنكية كالسندات وأذون الخزانة، فيما سيتجاهل الاستثمار الفعلي مثل إنشاء المصانع والشركات أو حتى شراء الأسهم، وذلك لسببين: الأول ارتفاع الفائدة على الائتمان في ظل معدلات تضخم مرتفعة، وعليه فإن المنتج أو الخدمة التي سيوفرها سينخفض الطلب عليها وترتفع تكلفة إنتاجها، والثاني هو ارتفاع تكلفة الاقتراض، وبالتالي تتراجع شهية المستثمرين نحو الاقتراض لتنفيذ مشاريع جديدة، خصوصاً أن أعباء الدين تصبح أثقل على كاهل المستثمر مع كل مرة يرتفع فيها سعر الفائدة.
ويفنّد وهيب بعض أضرار استمرار الفائدة المرتفعة على الأسواق العربية، ومنها:
- تراجع فورى للطلب على الاقتراض وزيادة الطلب على إيداع الأموال.
- تراجع وتيرة الاستثمار عامةً.
- ضعف القطاعات الإنتاجية وسوق العمل.
- تراجع التصنيف الائتماني للشركات جراء ارتفاع تكلفة الاقتراض وأعباء الدين، وبالتالي تبدأ أسهم الشركات الهبوط تدريجياً.
.- شلل جزئي يصيب الأسواق العقارية نظراً إلى تراجع الطلب على الرهن العقاري المرتفع التكلفة.
- إبطاء معدلات النمو الاقتصادي في الأسواق المالية والأسواق العامة عموماً في كل القطاعات.
ما هي البلدان العربية الأكثر تضرراً من استمرار رفع الفائدة؟
جميع الدول العربية المرتبطة تجارتها الخارجية بالدولار ستتأثر باستمرار الفائدة المرتفعة عليه، وثمة 3 أنواع من البلدان ستتأثر بشدة باستمرار الفائدة المرتفعة على الدولار، وهي: النوع الأول الدول المستوردة للنفط؛ لأنها ستدفع الفاتورة بالدولار وهو في أعلى مستوياته السعرية، والنوع الثاني هو الدول ذات الارتباط الوثيق بالاقتصاد الأميركي (دول الخليج الإمارات والسعودية وسلطنة عُمان والبحرين والكويت وقطر) إذ قد تواجه تقلبات في أسواق المال وتراجعاً في تدفقات رأس المال، وثالثاً الدول ذات الدين المرتفع مثل لبنان والسودان ومصر والأردن.
وستلجأ البلدان التي تعاني ارتفاعاً في فاتورة الدين الخارجي إلى اتباع بعض الخطوات للحد من تأثير الفائدة المرتفعة، ومنها تقليص العجز المالي في موازناتها عبر زيادة الإيرادات وخفض النفقات، ومحاولة إعادة هيكلة الديون من خلال التفاوض مع الدائنين لتمديد آجال استحقاق القروض أو خفض أسعار الفائدة.
لبنان
يأتي لبنان على رأس قائمة البلدان المتضررة من استمرار الفائدة المرتفعة للدولار، خصوصاً أنه مُني بخسائر تقدر بنحو 10 مليارات دولار جراء الحرب الجارية في غزة وجنوب لبنان، بحسب وزير الاقتصاد والتجارة في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية أمين سلام.
وارتفع الدين العامّ الإجمالي للبنان بنحو 3.16 مليارات دولار على صعيد سنوي، ليسجل مستوى 102.47 مليار دولار أميركي في كانون الثاني (يناير) 2023، بحسب إحصاءات جمعيّة المصارف في لبنان.
ويتوقع البنك الدولي في تقرير له بعنوان "اقتصاد لبنان الهش يعود مجدداً إلى الركود"، أن يتسارع معدل التضخم الذي فاق الـ100% منذ عام 2021، إلى 231.3% في عام 2023، مدفوعاً بانخفاض سعر الصرف (خلال النصف الأول من عام 2023) والدولرة السريعة (التخلي عن العملة المحلية مقابل الدولار) للمعاملات الاقتصادية.
وتصدّر لبنان قائمة البلدان الأكثر تأثراً بالتضخم الاسمي لأسعار المواد الغذائية في الربع الأول من عام 2023 (بنسبة 350% على أساس سنوي في نيسان 2023)، ما أدى إلى تفاقم هشاشة الظروف المعيشية للفئات الأشد فقراً والأكثر احتياجاً من السكان. ولا يزال الدين السيادي الذي بلغ 179.2% من إجمالي الناتج المحلي في عام 2022 غير مستدام وسط انخفاضٍ حاد في قيمة العملة وانكماشٍ اقتصادي، وفي ظل غياب إعادة هيكلة شاملة للديون.
وبالتالي سيعاني لبنان استمرار الفائدة المرتفعة على الدولار، وسيواصل التضخم ارتفاعه وتشهد البلاد حالات من الغلاء غير مسبوقة، كما سترتفع فاتورة الدين وأعباء الدين الخارجي، بالإضافة إلى ارتفاع قيمة فاتورة الاستيراد للسلع الاستراتيجية.
السودان
يعتبر السودان من البلدان العربية الأكثر تضرراً من استمرار الفائدة المرتفعة على الدولار، ويترتب على ذلك انخفاض في قيمة الجنيه السوداني الذي فقد أكثر من 50% من قيمته خلال الفترة الأخيرة وأصبح يتداول في السوق الموازية بسعر 1750 جنيهاً لكل دولار واحد، بينما سعره الرسمي في المركزي السوداني عند مستوى 601 جنيه لكل دولار، وتآكلت موجودات البنوك السودانية المُقدرة بنحو 45 تريليون جنيه سوداني (نحو 75 مليار دولار) منذ اندلاع الحرب في نيسان (أبريل) 2023 وحتى الآن والتي كبدت الاقتصاد السوداني خسائر تقدر بنحو 15 مليار دولار بنهاية عام 2023، ما يعادل 48% من إجمالي الناتج المحلي للدولة، بحسب دراسة أعدها المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية.
ومن تداعيات ارتفاع الفائدة على الدولار الأميركي ارتفاع تكلفة الدين وأعباؤه على الحكومة السودانية، إذ بلغ حجم الدين الخارجي السوداني 56 مليار دولار منتصف عام 2021، بحسب إعلان الحكومة السودانية حينها أثناء مفاوضات خفض الديون مع الدائنين، بينما حددت مؤسسة ستايستا (Statista) لتحليل البيانات حجم الدين العام للسودان في عام 2023 بنحو 260.4 مليار دولار، وتوقعت أن يصل إلى 554.87 مليار دولار بنهاية العام الجاري، وكلما ارتفعت الفائدة على الدولار ارتفعت تكلفة الديون السودانية الخارجية.
وستتأثر التحويلات المالية في السودان داخل البنوك الرسمية، فيما ستنتعش السوق الموازية، ويترتب على التأثيرات السلبية السابقة مواصلة تراجع نمو الاقتصاد السوداني الذي انخفض بأكثر من 18% خلال العام الماضي بحسب تحليلات صندوق النقد الدولي، ويقدر معدل التراجع خلال عام 2024 الجاري بنسبة 4.2% حتى الآن.
مصر
رغم التدفقات الدولارية الواردة إلى مصر وأبرزها صفقة "رأس الحكمة" مع الحكومة الإماراتية التي ضخت إلى الخزانة المصرية نحو 24 مليار دولار، بخلاف تحويل ودائع بقيمة 11 مليار دولار إلى الجنيه المصري، لاستخدامها في مشاريع رئيسية أخرى، إلا أن بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر الصادرة في آذار الماضي أظهرت انخفاضاً في إيرادات البلاد من النقد الأجنبي خلال العام المالي الماضي 2022 - 2023 إلى 121.9 مليار دولار، مقابل 160.5 مليار دولار في عام 2021 - 2022 بنسبة انخفاض قدرها 24%.
وعزا بيان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء المصري هذا التراجع إلى انخفاض المتحصلات الحكومية التي بلغت 2.4 مليار دولار في 2022 - 2023. وتقدر الفجوة الدولارية في مصر بنحو 50 مليار دولار، ما بين ديون تستحق خلال عام وعجز للحساب الجاري، فيما تقدر التدفقات الدولارية بنحو 45 مليار دولار، وفق مؤسسات بحثية.
وبناءً على ما سبق، يتضح أن أبرز التحديات التي ستواجه الاقتصاد المصري حال استمرار الفدرالي الأميركي في سياسة التشديد النقدي والإبقاء على معدل الفائدة المرتفع، هي استمرار ارتفاع فاتورة الاستيراد البالغة بنهاية عام 2023 نحو 83.2 مليار دولار، وأيضاً ارتفاع تكلفة الدين وأعباء الدين، إذ سجل إجمالي الدين الخارجي بنهاية الربع الأول من العام الماضي نحو 165.4 مليار دولار، ويتعين على مصر سداد نحو 32.8 مليار دولار تعادل نحو 20% من إجمالي الديون الخارجية للبلاد، ديون متوسطة وطويلة الأجل مستحقة خلال 2024، كما ستسدد التزامات خارجية (أقساط وفوائد ديون) بنحو 42.3 مليار دولار خلال العام المقبل، وفق بيانات البنك المركزي المصري.
يذكر أن سعر الفائدة في مصر هو 27.25%، وأن البنوك الحكومية مثل البنك الأهلي المصري وبنك مصر طرحت شهادات ادخار بعائد يصل إلى 30% سنوياً، ولمدة 3 سنوات، وذلك بهدف امتصاص السيولة النقدية من الأسواق وخفض القدرة الشرائية، حتى تنخفض معدلات التضخم من مستوى 33.3% في آذار الماضي، إلى المستوى المستهدف وهو ما دون الـ10%، بحسب توقعات لجنة السياسات النقدية في المركزي المصري. ويُقدّر سعر الدولار في مصر حالياً بـ47.23 جنيه لكل دولار واحد.
الأردن
سيؤدي استمرار ارتفاع سعر الفائدة على الدولار الأميركي إلى زيادة في تكلفة الاقتراض وأعباء الدين الأردني، وأظهرت بيانات البنك المركزي الأردني ارتفاعاً قياسياً لمديونية الأردن خلال الأحد عشر شهراً الأولى من العام الماضي بمقدار 3.092 مليارات دينار (4.35 مليارات دولار) ليصل إلى 41.58 مليار دينار (58.62 مليار دولار)، مشكّلاً ما نسبته 114.8% من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 38.49 مليار دينار وبنسبة 111.4% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022.
ورغم ارتفاع مستوى الديون بالأردن، أعلنت وكالة فيتش الأميركية للتصنيف الائتماني في 12 أيار (مايو) الجاري، تثبيت التصنيف الائتماني السيادي للأردن الطويل الأجل ليبقى عند مستوى "-BB" مع نظرة مستقبلية "مستقرة".