يترقّب الأتراك بقلق حزمة الضرائب التي أعدتها الحكومة التركية في نطاق خطتها المتوسطة الأجل، بهدف زيادة عائدات الضرائب المباشرة، والمتوقّع إرسالها إلى البرلمان للمصادقة خلال الأسبوع الجاري.
الحزمة بشكلها المتسرّب إلى وسائل الإعلام تشمل الكثير من اللوائح المالية الجديدة الخاصة بضريبة القيمة المضافة، وضريبة الدخل على الشركات، والقوانين والإجراءات الضريبة، ولكن الأهم، زيادات حادة على مختلف الرسوم والضرائب والغرامات، ما فجّر جدلاً واسعاً في البلاد على المستويات السياسية والإعلامية ونشطاء التواصل الاجتماعي.
زيادة جنونية في الرسوم والضرائب
وضجت وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي بتفاصيل الحزمة الجديدة من الضرائب التي أعدّها وزير الخزانة والمالية محمد شيمشيك وفريقه الاقتصادي، ونوقشت يوم الإثنين في اللجنة القيادية العليا لحزب "العدالة والتنمية" قبل إرسالها إلى البرلمان للتصديق.
وشملت الحزمة المسرّبة إنهاء الإعفاء من الضريبة على القيمة المضافة الممنوحة لكل من: مركبات النقل البحري والخدمات المقدمة من قبلها، الجهات المصنّفة تحت بند خدمة الأمن القومي، خدمات الرعاية الصحية المقدمة للأجانب، الكتب والمطبوعات الدورية.
كما تضمّنت أيضاً تحويل الإعفاء الكلي من الضريبة على القيمة المضافة في خدمات التنقيب عن الذهب والفضة والنفط، وخط السكك الحديدية الواصلة إلى الموانئ وإنشاء الموانئ والمطارات والمناطق الصناعية المنظمة والمواقع الصناعية الصغيرة إلى جزئي، وإلغاء الإعفاء من الرسوم على مركبات ذوي الاحتياجات الخاصة، بالإضافة إلى تحصيل ضريبة الدخل المقطوع من عمال التوصيل بالدراجات النارية وضريبة نسبة على المكافآت الممنوحة (إكرامية) لموظفي خدمة المطاعم والفنادق، وفرض حد أعلى للإعفاء من الأجر المطبق على العاملين في مجال البحث والتطوير.
كما تضمنت الحزمة رفع رسوم مغادرة البلاد 10 أضعاف لتصبح 1500 ليرة تركية (نحو 50 دولاراً أميركياً) بعدما كانت 150 ليرة.
أجواء متوترة في لقاء السلطة والمعارضة
في سياق سياسات "الليونة" و"التطبيع" التي أعلنها كل من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزعيم حزب "الشعب الجمهوري" أوزغور أوزيل، عقدت لقاءات بين وزراء كل من الداخلية والخارجية والإسكان والعدل مع نظراء اختصاصاتهم في الحزب المعارض قبل عطلة عيد الأضحى، فيما تركّزت الأنظار على اللقاء الأهم بعد العطلة، والذي جمع بين وزير الحزانة والمالية التركي ونائب رئيس حزب "الشعب الجمهوري" المسوؤل عن السياسات الاقتصادية يالتشين كاراتيبي.
وبعد الاجتماع الذي استمر نحو 4.5 ساعات، خرج المسؤول الجمهوري بتصريحات انتقد فيها الإجراءات المقرر تطبيقها من قبل الوزير شيمشيك "الذي لم يتجاوب مع اقتراحاتنا وانتقاداتنا إلا بكتابة الملاحظات فقط"، بحسب تعليقه.
وشدد كاراتيبي على رفض حزبه خطوات الحكومة، ملوّحاً بالاستمرار في سياسات المعارضة في حال إصرار شيمشيك وفريقه على المضي قدماً في خطّته الاقتصادية.
السلطة متّهمة بمحاباة رؤوس الأموال
تتّهم المعارضة شيمشيك بتطبيق خطة صندوق النقد الدولي من دون الإعلان عنها صراحة، مع التركيز على التحصيل غير المباشر من خلال فرض رسوم على الاستهلاك بدلاً من تحصيل ضرائب على الأرباح والإيرادات، وذلك إرضاءً لرجال الأعمال والطبقة الاقتصادية المقرّبة من حزب "العدالة والتنمية" الحاكم ورئيسه أردوغان.
كما تطالب المعارضة برفع الحد الأدنى للأجور والرواتب، سواء للعاملين أم للمتقاعدين، وزيادة أسعار شراء المنتجات الزراعية الأساسية كالتبغ والشاي والقمح من المزارعين، واستبدال نظام ضريبي حقيقي مبني على الأرباح وليس على الإيرادات بنهج تحصيل الأموال من خلال رفع أسعار المحروقات ورسوم العبور والمغادرة وغيرها.
وتشير الأرقام الرسمية إلى دفع الأتراك ضرائب بقيمة تريليونين و750 مليار دولار خلال 22 عاماً من حكم حزب "العدالة والتنمية"، وذلك نتيجة للنظام المالي المحابي لأصحاب رؤوس الأموال ورجال الأعمال.
وبحسب الصحافي الاقتصادي أوزان بينغول، فإن "أحد أهم أسباب قبول الرئيس التركي عقد لقاء بين شيمشيك ووفد المعارضة هو الإعلان عن الحزمة الضريبية الجديدة والإيحاء بأن إقرارها جاء بالتوافق مع المعارضة، التي قلبت الطاولة على الحكومة وأعلنت عدم رضاها عن الاجتماع ومخرجاته".
تصريحات المعارضة قوبلت باستهجان كبير من السلطة، إذ نشر كل من نائب أردوغان في رئاسة الحزب فاروق تشيليك والوزير شيمشك منشورات على موقع "إكس" تتهم المعارضة بممارسة سياسات شعبوية بعيدة عن الواقع من أجل كسب الأصوات.
وتخشى السلطة في تركيا التي تعاني نزيفاً حاداً في الأصوات ظهر في الانتخابات المحلية الأخيرة، من استغلال المعارضة الأزمة الاقتصادية الحادة والظروف المعيشية التي تزداد قسوة في البلاد وتحريض الشارع على التوجّه إلى انتخابات عامة مبكرة قد تؤدي إلى انتهاء حياة أردوغان السياسية، وهي المخاوف ذاتها التي تمنع الرئيس التركي من فك شراكته مع حزب "الحركة القومية" على الرغم من تكاليفها السياسية العالية.
خطة تقشّف غير جادة
وفي إطار تعزيز ثقة الصناديق والجهات الاستثمارية الأجنبية بالاقتصاد التركي، أعلن وزير الخزانة والمالية في شهر منتصف أيار (مايو) الماضي "خطّة تقشّف" اقتصادية تضمنت سلسلة من القرارات الهادفة إلى تحقيق وفر في الموازنة العامة، داعياً كل الجهات الحكومية والشعبية إلى "شدّ الأحزمة" للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
لكن بيانات إنفاق موازنة شهر أيار الصادرة عن وزارة الخزانة والمالية أظهرت عدم التزام الحكومة بمطالبات التقشّف، إذ ارتفعت نفقات الترويج والفعاليات التي قيل إنها ستخفض في إطار التدابير، إلى 418 مليون ليرة في أيار إلى 5 مليارات و34 مليون ليرة تركية في الأشهر الخمسة الأولى من العام، ما عزز الانتقادات الموجهة إلى افتقار الحكومة إلى الجدّية المطلوبة لإنجاح الخطة.
كما قامت الجهات العامة بتحويل مبلغ 1.4 مليار ليرة تركية إلى المنظمات غير الربحية المعروفة بقربها من السلطة، والتي يغلب على غالبيّتها الطابع الديني، لترتفع نفقات الموازنة في أيار بنسبة 97.9% مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي.
وعلى رغم وجود بند بضرورة توقّف الجهات العامة عن استئجار السيارات حتى نهاية عام 2025 والاستعاضة بدلاً منها بسيارة "توغ" المصنّعة محلياً، فقد كشف الصحافي مصطفى بيلديرسين من صحيفة "بيرغون"، عن استئجار الجهات العامة 13 سيارة من خلال مناقصتين مختلفتين لمدة عام بقيمة 10.1 ملايين ليرة تركية،
فيما انتقدت صحيفة "سوزجو" المعارضة الوزير شيمشيك "الذي يدعو إلى التقشف واستخدام السيارة المحلية راكباً سيارة مرسيدس اس 400 بقيمة 16 مليون ليرة تركية"، ناشرة البيانات المالية لمساعديه الذين يتقاضون أكثر من راتب واحد وفي بعض الأحيان 4 رواتب من خلال مسمّيات وظيفية في جهات تجارية مختلفة.
شيمشيك يشق صفوف السلطة أيضاً
رفض خطوات شيمشيك الاقتصادية ليس حصراً على المعارضة فقط. فقد تحوّل "أمل تركيا للنجاة من الأزمة الاقتصادية" إلى شخصية جدلية داخل حزب" العدالة والتنمية" أيضاً، مع تزايد الانتقادات لإصراره على عدم منح زيادة للمتقاعدين قبيل الانتخابات البلدية الأخيرة في نهاية آذار (مارس) الماضي، "ما أدّى إلى خسارة الانتخابات" وفق اتّهامات معارضي شيمشيك داخل الحزب الحاكم.
تصاعد هذه الأصوات دفع الوزير شيمشيك إلى تبرئة نفسه من خلال التصريح خلال مقابلة صحافية بأن "إقرار الزيادة كان ليجبر الحكومة التركية على اقتراض أموال من الخارج بفائدة تزيد على 50%، ما يعني رهن مستقبل الأجيال القادمة".
في المقابل، كان لافتاً للانتباه انتشار حسابات على منصّة "إكس" تمدح السياسات الاقتصادية لوزير المالية الأسبق، صهر الرئيس التركي، برات البيراق، ومقارنة عهده بالفترة الحالية، ما عزز من شكوك قيادة الصهر للتيار المعارض لشيمشيك داخل السلطة، على رغم إصرار أردوغان على منحه الثقة.
ليست واضحة بعد المواد التي سيتم قبولها والأخرى التي سيحذفها البرلمان ضمن مشروع القانون، لكن تسريبها بهذا النحو فسّره المختصّون الأتراك بأنه إشارة إلى رفض العديد من مسؤولي حزب "العدالة والتنمية" إجراءات وزير الخزانة والمالية، فيما اعتبرها آخرون خطوة لجس نبض الشارع التركي وقياس رد فعله.
معركة صعبة يقودها شيمشيك في ظل تحدّيين رئيسيين خلال الأيام القادمة، يتمثّل الأول في اجتماع يوم الخميس القادم من أجل إقرار نسبة الفائدة الأساسية التي يتوقّع المحللون أن تبقى من دون تغيير، فيما تتركز أنظار الأتراك على اجتماع الخميس الذي يليه من أجل الإعلان عن نسبة التضخّم التي وعد شيمشيك بتراجعها ابتداءً من النصف الثاني من العام، وهو ما لم يتحقق حتى الآن.