تضرب موجة إفلاس آلاف الشركات الألمانية مع تزايد ديناميات التعثر المالي، الأمر الذي سيترك تبعات حادة على دولة تعد صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، وقاطرة للاتحاد الأوروبي، بفعل ضعف النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة وتراجع القدرة التنافسية.
فماذا عن حالات الاستسلام المتسارعة لعدد متزايد من الشركات أمام المشكلات الناجمة عن الأزمات الأخيرة؟
مزيج سام
تظهّر هذا الواقع في هذا الأسبوع مع كشف وكالة الائتمان "كريدي ريفورم" ومركز "لايبنز" للبحوث الاقتصادية الأوروبية تسجيل 11 ألف حالة إفلاس بين شركات ألمانية في النصف الأول من هذا العام، بسبب ضعف الاقتصاد. وهذا يمثل أعلى مستوى منذ نحو 10 سنوات، بمعدل يزيد بنحو 30 في المئة على الفترة نفسها من العام الماضي. والأهم، وفق "كريدي ريفورم" أن حالات التعثر المالي في تزايد مستمر.
في هذا السياق، يؤكد باتريك لودفيغ هانتزش، مدير البحوث الاقتصادية في "كريدي ريفورم"، أن الزيادة في معدلات العسر ليست مستمرة فحسب، بل في تسارع، فيما تحاول الشركات محاربة آثار 2023: ركودها وأزمتها وضعف تنميتها الاقتصادية، "وهذه العوامل مجتمعة تقصم ظهر العديد من الشركات"، ومتوقعاً تزايد حالات الإفلاس حتى نهاية العام، في ظل غياب الاستقرار المالي.
وبينت تقارير اقتصادية، بينها نشرته صحيفة "دي فيلت" الألمانية، أن السبب الرئيسي لهذا التطور هو الزيادة الكبيرة في عدد حالات الإعسار بين الشركات الكبرى، التي يعمل فيها ما لا يقل عن 250 موظفاً، "ولهذا تأثيره الواضح وضرره الفادح في الاقتصاد، يفوقان تأثير وضرر إفلاس الشركات الصغرى التي يعمل فيها أقل من 10 موظفين".
ووفقاً للإحصاءات، تضاعفت حالات الإعسار من 40 إلى 80، وبالتالي أضحت أعلى كثيراً من المستوى الطبيعي الذي ساد في السنوات الأخيرة. وأبرز هذه الحالات، وفق "كريدي ريفورم"، سلسلة المتاجر الكبرى "كارشتات كاوفهوف"، وشركة السياحة والسفر "أف تي آي توريستيك".
وفي رد مبدئي، يقول الباحث في الاقتصاد السياسي نيكلاس مورشلات لـ"النهار العربي" إن التباطؤ الاقتصادي والتضخم والمخاطر الجيوسياسية وارتفاع تكاليف الطاقة "مزيج سام للاقتصاد المحلي، وتجبر حالة عدم اليقين الاقتصادي الكثيرين على اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على القدرة التنافسية والاستقرار المالي".
ويرجح مورشلات أن يبقى النمو الاقتصادي ضعيفاً جداً في البلاد خلال عام 2024، خصوصاً أن أسعار الفوائد مرتفعة وتمويل الشركات يمثل تحدياً حقيقياً، إذ عليها تمويل نفسها بتقليص التكاليف أولاً، توازياً مع رزوح شركات كثيرة تحت عبء الديون، وعجز أخرى عن الوفاء بالتزاماتها مع تراجع مواردها المالية بفعل تراجع الطلب على منتجاتها أو خدماتها، إضافة إلى عوامل المدفوعات المتأخرة ومشكلات السيولة.
وبرزت تحقيقات تفيد بأن 40 في المئة من الشركات تركز على تحسين الكفاءة أو تجميد الاستثمارات أو تأجيلها، كما تتخذ تدابير أخرى بينها تقليص عدد الوظائف، أو تقصير دوام العمل، من دون التوقف عن تطوير المنتجات أو الخدمات الجديدة.
مؤشرات مقلقة
بخصوص القطاعات الرئيسية الأكثر تأثراً، بيّن "كريدي ريفورم" أن الزيادة في حالات الإفلاس وصلت في قطاع المبيعات بالتجزئة إلى 20 في المئة، بسبب ارتفاع التكاليف وضعف الاستهلاك الخاص، فيما بلغت نحو 21,5 في المئة في قطاع التصنيع، ونحو 27,5 في المئة في قطاع التشييد والبناء الذي يكتسي أهمية خاصة في الاقتصاد الوطني، ونحو 25 في المئة في قطاع الخدمات، أي نحو 6500 حالة إفلاس، "وهذه النسبة المرتفعة في قطاع الخدمات الذي يمثل ثلثي الحجم الإجمالي للاقتصاد توضح أن الصناعة تتأثر بشدة بالركود"، وفق هانتزش.
وبات معدل الإفلاس في قطاع الخدمات أعلى من المتوسط والبالغ 71 حالة، ووصل إلى 74 حالة إفلاس لكل 10 آلاف شركة، فيما ارتفع في قطاع البناء من 77 إلى 98 حالة مقارنة بالأشهر الستة الأولى من عام 2023، وهذا ما يعكس أيضاً حدة المشكلات التي تجتاح قطاع التطوير العقاري.
وبحسب محللين، لا شك في أن الزيادة الكبيرة في حالات الإفلاس مثيرة للقلق، وهناك توجس من مغادرة العمال المهرة الذين تسعى ألمانيا إلى استقطاب المزيد منهم، بينهم في قطاع الإنشاءات وتحويل الطاقة. وتقدر "كريدي ريفورم" الديون المستحقة للموردين والمقرضين وشركات التأمين الإجتماعي بنحو 19 مليار يورو، وهذا يزيد بمقدار 6 مليارات يورو عما كان عليه في النصف الأول من عام 2023، الأمر الذي يزيد الأعباء الموجودة أصلاً. كما ارتفع عدد الوظائف المعرضة للخطر إلى نحو 133 ألف وظيفة بين كانون الثاني (يناير) وحزيران (يونيو) 2024، بنسبة 6,4 في المئة تقريباً.
ويقول كريستوف نيرينغ، رئيس الجمعية المهنية لمديري وأمناء الإعسار في ألمانيا، إن الصناعة تعاني ارتفاعاً في أسعار الفائدة وزيادةً في تكاليف البناء، "فالضغط مستمر على تجار المبيعات بالتجزئة، ولا يمكن توقع تعافي الطلب على المشاريع العقارية التجارية بسرعة، وهذا ما يزيد الصعوبات التي تواجهها الشركات". وهذا ما يؤكده توماس لانغن، المسؤول عن أعمال التأمين الائتماني في ألمانيا وأوروبا في شركة "أتراديوس" المعنية بهذا النوع من التأمينات. يقول: "على الرغم من حسن إدارة الصناعة الألمانية، لا مناص من الاعتراف بأن ألمانيا تمر في حالة ركود شامل".