انعكس تصاعد مستوى الاضطرابات العسكرية في منطقة كورسك الواقعة في الجنوب الروسي مع توغل القوات الأوكرانية انعكاساً ملحوظاً أخيراً على أسعار الغاز في القارة العجوز ودفعها إلى مستوى سنوي جديد، بحكم وجود محطة توزيع رئيسية روسية للغاز إلى أوروبا بالقرب من سودجا. ومع أن الحكومة الأوكرانية لم تأمر بإغلاق المحطة مراعاة لحلفائها الغربيين وحاجتهم لإمدادات الغاز الطبيعي المسال، إلا أن الأمر أعاد إلى الأذهان المرحلة الصعبة التي عاشتها أوروبا مع انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022 ووصول الأسعار إلى مستويات فلكية. فماذا عن تأثيرات تعرض المصدر الأكثر أهمية لتوزيع طاقة التدفئة على تقلبات الأسعار والبدائل التي قد يخلفها توقف عبور الغاز؟
ذكرت تقارير اقتصادية بينها لصحيفة "هاندلسبلات"، أن التطور الأمني وتصاعد الهجمات كان كافياً لحدوث اضطرابات في تجارة الجملة لإمدادات الطاقة الأوروبية التي ارتفعت خلال الأيام الماضية إلى أعلى مستوى لها منذ كانون الأول (ديسمبر) 2023. والتجار شعروا بالقلق الشديد والسيطرة الجزئية على محطة التوزيع هناك، مع الخشية من تعرض خط الأنابيب للتلف وإعلان حال الطوارئ مع تقدم القوات الأوكرانية في المنطقة المذكورة، واحتمال أن توقف روسيا تدفقات الغاز عبر هذا الخط في سودجا بعد سيطرة الأوكرانيين على قرى عدة محيطة وتقدمهم عشرات الكيلومترات باتجاه محطة الطاقة النووية.
وتكتسب محطة توزيع الغاز هناك، أهميتها كون خط أنابيب ترانسغاز مرتبط بها مباشرة، وحيث تنقل الأنابيب غاز الميتان السيبيري عبر أوكرانيا إلى سلوفاكيا والنمسا من محطة الغاز الروسية المذكورة التابعة لمنطقة كورسك والواقعة على بعد 500 متر فقط من الحدود الأوكرانية، ناهيك عن أنها باتت تعتبر جزءاً من آخر طريق خط أنابيب روسيا إلى أوروبا بعد إغلاق محطة سوخرانوفكا في منطقة روستوف شرق أوكرانيا. وعلى الرغم من الحرب، يتم التعامل مع حوالي نصف صادرات الغاز الروسية المتبقية إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب.
وكانت شركة غازبروم الروسية قد أفادت بأن محطات التحويل والنقل في سودجا تسير سيراً طبيعياً إلى حد كبير، وسيتم تغذية حوالي 37,3 مليون متر مكعب، وبحسب وكالة الأنباء المالية "بلومبرغ" يبلغ متوسط القيمة اليومية حوالي 42 مليون متر مكعب، لكن الفرق يتعلق بانخفاض الطلب على كميات الغاز من العملاء.
طرق إمداد بديلة
وكان خط أنابيب ترانسغاز أساساً مثار جدل لفترة طويلة، حيث برزت دعوات عديدة على مستوى الاتحاد الأوروبي لسلوفاكيا والنمسا لفصل نفسيهما عن عمليات التسليم مع رفض حكومتي البلدين لذلك لأنهما تخافان من ارتفاع الأسعار على المستهلكين لديهما. واعتبر الكاتب فرانك توماس فينزل في تحليل له مع شبكة التحرير الألمانية أخيراً، أن أوروبا باتت أكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى إعلان شامل للاستقلال عن الغاز الروسي، والبرهان حالياً محطة التوزيع المعلق عليها خط أنابيب ترانسغاز المهم للأوروبيين، والذي يوضح مدى ضعف إمدادات الطاقة في أوروبا. وارتفعت أسعار الجملة في أوروبا منذ نيسان (أبريل) الماضي بنحو 40%.
وفي السياق عينه، قال الباحث الاقتصادي نيكلاس فسترمان لـ"النهار العربي"، إنه من الضروي العمل على تطوير المصادر البديلة للمواد الخام لدينا، مثنياً في الوقت نفسه على الجهود التي تبذل للاستفادة من إمدادات الطاقة من أفريقيا مستقبلاً، قبل أن يشير إلى أنه لحسن الحظ هناك محطات كافية في أوروبا يمكن من خلالها تزويد كل من سلوفاكيا والنمسا بإمدادات الطاقة إذا ما تدهور الوضع إلى الأسوأ في كورسك.
ومع ارتفاع كلفة الغاز الطبيعي الآن لأكثر من 40 يورو لكل ميغاوات ساعة على مؤشر "تي تي أف" الهولندي، أشار متابعون إلى أن هناك محادثات مع أذربيجان لتكون مورداً جديداً للغاز إلى أوروبا، وأن الأوروبيين على تواصل مع باكو بشأن هذه الخطوة، وإذا ما نجحت عملية الاستبدال والاستغناء عن الغاز الروسي والتحول إلى الغاز الأذربيجاني، فستحافظ أوكرانيا على دورها كدولة عبور لتزويد أوروبا بالغاز المسال ومساعدة جيرانها الغربيين في تأمين إمدادات الطاقة. وبحسب الخبراء يجب أن تكون الخطط التالية الاستقلال الأكبر عن الوقود الأحفوري عامةً، وعلى وجه التحديد تسخين أقل باستخدام الغاز الطبيعي، وتسخين أكثر باستخدام المضخات الحرارية التي تعمل بطاقة الرياح والطاقة الشمسية.
أسباب أخرى لتقلبات الأسعار
ووسط التوجس من أن تستجد أزمة الغاز في أوروبا، برزت أسباب أخرى لتقلبات أسعار الطبيعي المسال، بينها تسبب موجات الحر في الآونة الأخيرة في آسيا وأوروبا بزيادة كبيرة على الطلب، لا سيما أن الوقود ضروري للحفاظ على تشغيل محطات الطاقة التي تعمل بالغاز، والتي بدورها تحتاج إلى إنتاج المزيد من الكهرباء بسبب عمليات تكييف الهواء. علاوة على ذلك، تشمل العوامل الأخرى الاختناقات المتكررة في الإمدادات من منتجي الغاز في جميع أنحاء العالم، وحيث ينصبّ التركيز في كثير من الأحيان على تداعيات العواصف الرعدية الشديدة والأعاصير وتبدل المناخ.
وبحسب محللين اقتصاديين، لا يمكن إغفال المخاطر الجيوسياسية في الشرق الأوسط، ومن الممكن أن يؤثر توسيع العمليات العسكرية، من بين أمور أخرى، على عمليات التسليم من شبه الجزيرة العربية، ناهيك عن أن النروج ستساهم أيضاً في ذلك لأنها سوف تضطر إلى خفض إنتاج الغاز نهاية الشهر الحالي بسبب أعمال الصيانة على منشآتها، وهذا تلقائياً ما سيقيد المعروض من الغاز الطبيعي المسال. تجدر الإشارة إلى أنه يتم تسليم كميات من الغاز عن طريق السفن، والتي يتعين شراؤها إلى حد كبير من الأسواق العالمية وتصل إلى الاتحاد الأوروبي، وبعدما أوقفت روسيا نتيجة العقوبات الأوروبية عليها عقود توريد الغاز الطويلة الأجل التي كانت تسمح للشركات بأن تقدم للمستهلك الأوروبي الغاز بأسعار رخيصة.