خسرت سوريا خلال حربها الممتدة منذ عام 2011 معظم ثرواتها النفطية والزراعية ومصادر دخلها الصناعية والتجارية والسياحية وغيرها، في ظلّ واقع تبدل السيطرة على مناطق الصراع بين أطرافه مئات المرات، قبل أن تتخذ شكلها الأخير عامي 2018-2019 مع انتهاء معارك المدن الكبرى واتضاح خريطة السيطرة الجديدة وانطلاق مسارات التفاهم الدولية في سوتشي وأستانا وقبلهما في جنيف حول ما بقي من الكعكة الجغرافية.
هكذا عبثت الحرب بآبار النفط
"سوريا المفيدة"
تسيطر حكومة دمشق اليوم على ما يعرف في الأوساط السياسية بـ"سوريا المفيدة"، وهي الممتدة من أقصى الجنوب حيث دعا إلى أقصى مدن الشمال الكبرى في حلب، وضمناً الخط الذي تقع عليه عمودياً مدن دمشق وحمص وحماه وكذلك طرطوس وبانياس واللاذقية على الشريط الساحلي في الغرب، وفي العمق تدمر، وإلى الشرق منها دير الزور، فيما تسيطر "جبهة النصرة" (هيئة تحرير الشام) على معظم إدلب في الشمال الغربي وأجزاء من جبال ريف اللاذقية الشرقية، وتسيطر القوات التركية ومعها "الجيش الوطني المعارض" المدعوم منها على شمال حلب وشرقها. وتسيطر "قوات سوريا الديموقراطية" (الكردية) مع عشائر عربية متحالفة معها على الشمال والشمال الشرقي مع وجود أميركي يؤمن الدعم والإمداد اللوجستي لها.
وتكرس شكل هذه الخريطة بعيد هزيمة تنظيم "داعش" في آذار (مارس) عام 2019 وأسر معظم مقاتليه وعشرات الآلاف من نساء عوائله وأطفالهم الذين ما زالوا حتى اليوم ضمن سجون ومخيمات في مناطق الإدارة الكردية.
قبل سيطرة الأكراد على المشهد في تلك المنطقة، وعلى الأقل ما بين عامي 2014 و2019، كان تنظيم "داعش" هو الأوسع انتشاراً والأكثر نفوذاً بسيطرته على ما يتجاوز 70 في المئة من إجمالي الخريطة السورية، ما أتاح له التحكم في موارد سوريا النفطية والغازية واستخراجها بطرق بدائية ألحقت بالآبار أضراراً فادحة، قبل أن يصار إلى تمريرها نحو العراق وتركيا غير مكررة وفي الغالب عبر أقنية غير شرعية وبأسعار متهاودة.
ضفتا الفرات – عداوة الأصدقاء
مع سيطرة الأكراد تغيرت الأمور كثيراً لناحية تنظيم عملية استخراج النفط والتحكم به وبسعره وآلية بيعه، لكنّ المشترك الثابت هو أنّ دمشق وما تحكمه من مدنٍ وملايين السكان فيها ظلوا محرومين من ذهبهم الأسود ليكملوا اليوم تمام عقدهم الأول متحسرين على خزائن بلادهم الاستراتيجية.
رغم استحواذ الأكراد، وبالتالي أميركا، على الذهب الأسود الغزير شرق البلاد، لكنّ ذلك لم يفلح في إحداث تغيير في المشهد السكاني هناك نحو الارتياح والرفاهية، فيما اقتصرت الغنائم على تقوية الوجود الكردي العسكري، والمعارك التي نشبت مراراً بين الكرد والعرب في المنطقة هناك كانت مبنيةً في جزء منها على استئثار الأكراد بالتصرف بموارد المنطقة، على ما قاله أحد شيوخ العشائر هناك في اتصال مع "النهار العربي".
الشيخ الذي طلب عدم الكشف عن اسمه امتثالاً للهدنة الحالية بين الطرفين (الصديقين – العدوين) قال: "القصة بدأت العام الماضي بعد تلمّس تغوّل القوات الكردية على العربية واعتقالها أحد ممثلينا من دون وجه حق، فانتفضت عشائر طي والبكّارة والبو شعبان والبكير دعماً لعشائر العكيدات وتصليباً لموقفها، وقتذاك قامت القوات الأميركية بقصفنا جواً خلال نفورنا العام الذي أعلنا عنه بوضوح".
ويكمل الشيخ: "بناءً عليه وبعد هدوء المعارك حصل انشقاق ضمن العشائر في مواقع التموضع السياسي بين قسد ودمشق، جزء مال إلى ما كان عليه شرق الفرات، وجزء آخر وضع نفسه تحت تصرف الحكومة غرب الفرات، ولكنّ القصة أعقد وأبعد من ذلك، وهي تكمن في الازدراء الذي نتلقاه خلال معاملتنا، ومن رؤيتنا لثرواتنا كيف يتم تبديدها في شؤون عسكرية أفضت إلى قتل السبل المعيشية من دير الزور إلى الحسكة، إذاً، أكبر جوانب هذا الصراع كانت حول المساءلة وتحسين المعيشة ورفع سوية العرب إلى المقاتلين الكرد، وهذا ما أدى إلى نشوب المعارك من جديد".
فروق أحدثت مجاعة
كانت سوريا تنتج عشية الحرب عام 2011 حوالي 385 ألف برميل نفط يومياً، ما كان يفيض عن حاجتها حينه، إذ كانت كامل البلاد لا تحتاج أكثر من نصف الرقم المنتج، وبالطبع فإنّ الآبار التي كانت تنتج تلك الكميّة كلها تقع شرق البلاد، وهي آبار السويدية والعمر ورميلان والتيم والورد، وجميعها لا تسيطر الحكومة عليها منذ سنوات.
خلال السنوات ما بين 2011 و2020 فقط خسرت سوريا أكثر من 90 مليار دولار من عائدات نفطها، وباتت اليوم لا تنتج أكثر من 15 ألف برميل نفط يومياً من حقول متواضعة متفرقة معظمها في محيط مدينة تدمر.
كذلك كانت سوريا تنتج قبل الحرب 27 مليون متر مكعب من الغاز، فيما تنتج اليوم حوالي 10 ملايين متر مكعب، بحسب وزير النفط السوري فراس قدور الذي حمّل المسؤولية كاملةً للحرب وتدمير المنشآت النفطية والغازية وسيطرة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها على أكثر من 90 في المئة من الحقول، حتى تاريخه.
الوزير أوضح أن الإنتاج النفطي الحالي بالكاد يكفي حاجات 3 إلى 4 في المئة من السوريين، فيما يلبي الغاز حاجات 30 في المئة من المواطنين، وهي بطبيعة الحال نسبٌ هزيلة جداً لملايين السكان الذين يعانون أزمات وشحاً غير محتمل وصعوبة قلّ مثيلها في الحصول على الوقود والغاز، إذ بات على الأسرة الانتظار لفترة تقارب 90 يوماً للحصول على أسطوانة غاز منزلية في كل مرّة، وهي بطبيعة الحال قد تكفي شهراً أو أقلّ.
كذلك تعتبر منطقة الجزيرة (شمال شرقي سوريا) الخزان الغذائي الاستراتيجي للقمح والحبوب، وما ينطبق في الغالب على النفط والغاز ينطبق عليهما. ومن جملة الموارد التي أطاحتها الحرب، إذ كان يعتد بها في رفد الخزينة بالقطع الأجنبي، هي السياحة التي بلغت عائداتها في عام 2010 نحو 8.4 مليارات دولار، ما يعادل 14 في المئة من اقتصاد البلاد، لتنهار السياحة لاحقاً مع جملة ما انهار قبلها.
أزمة المياه الجوفية والزراعة
تبدو المسألة الاقتصادية في سوريا مركبة للغاية، داخلياً وخارجياً، تضاف إليها تحذيرات أممية من شح مستوى المياه الجوفية، وبالتالي دمار ما بقي من بنية الزراعة المتراجعة نحو حدودها الدنيا في الأعوام القليلة الفائتة، نظراً إلى سوء تسويق المنتج وضعف التصدير وارتفاع كلف الزراعة مقابل البيع.
ذلك الشحّ لم يكن مجرد افتراضات يمكن البحث فيها، بل تحول إلى واقع إثر ري مزارعي غوطة دمشق الشرقية محاصيلهم بمياه الصرف الصحي عام 2020 لنضوب موارد المياه النظيفة حولهم، وتالياً التسبب بتفشي الكوليرا وقتذاك، وبطبيعة الحال فالأمر انسحب نحو قرى ومناطق أبعد.
زاد في سوء واقع المياه الجوفية المتردي استثمارها السياحي عبر استحداث مئات المنشآت السياحية في المناطق الآمنة والتي تستجرّ المياه من دون موافقات سابقة، وبإغفال شبه تام من الجهات الوصائية في مراكز المحافظات تحت حجج متعلقة بظروف الحرب وصعوبة المتابعة.
الابتزاز السياسي
مجدداً إلى الشمال الشرقي حيث يدعم مرور نهر الفرات في الأراضي السورية قادماً من تركيا معيشة نحو 5 ملايين إنسان بحسب منظمة الغذاء العالمية، ولكنّ تجاذبات سياسية بين دمشق وأنقرة خلال سنوات الحرب السورية جعلت الأخيرة اعتباراً من عام 2021 لا تسمح بمرور أكثر من 200 متر مكعب في الثانية من مياه النهر من تركيا إلى سوريا، رغم وجود اتفاقية دولية موقعة عام 1987 تلزم الجانب التركي بالسماح بمرور 500 متر مكعب في الثانية نحو الأراضي السورية فالعراقية.
علاوةً على ذلك قام "الجيش الوطني" والجانب التركي بتعطيل عمل محطة مياه "علوك" في ريف الحسكة أقصى شمال شرقي سوريا أواخر عام 2019، ما جعل أكثر من مليون ونصف مليون مواطن هناك بحاجة للمياه، ليحاول الهلال الأحمر بالتعاون مع منظمة "ضد الجوع" بحث سبل وآليات تغذية للمناطق المتضررة بخزانات منزلية ريثما تحصل تسوية تعيد المياه للحسكة وريفها وبلد تل تمر.
ذلك الحرمان الجماعي من مياه الشرب كان سبباً إضافياً في استنزاف موارد المياه الجوفية، الموارد التي يصعب الاستحصال عليها من جديد نظراً إلى موجات الجفاف المتتالية وقلّة الأمطار والثلوج للعام الرابع على التوالي في عموم سوريا.
حكومات كثيرة
كل ما سبق كفيلٌ بإيضاح بعضٍ الأسباب المباشرة الكبرى التي أفضت إلى المأساة السوريّة، لكنّه بشكل أو بآخر لا يعفي جملة حكومات سورية متعاقبة من المسؤولية التامة والمباشرة، إن لم يكن عن الحال العسكرية، فعن المبادرة إلى وضع مشاريع وحلول وخطط تنفيذ واتفاقيات دولية تراعي القادم مع حلفائها لتخرج من عباءة السلطة التنفيذية مع أي تغيير حكومي وقد سلمت بلداً بمشكلات أقل لحكومة قادمة، إلى أنّ ما يحصل هو أنّ كلّ حكومة تنقل مشكلاتها لتابعتها، وهكذا دواليك.
الحكومة السورية اليوم دخلت قبل أيام مرحلة تصريف الأعمال، وقبل دخولها المرحلة اتخذت قرارات عينت بموجبها 5 مديرين عامين حيويين وإعفاء خمسة آخرين، من دون أن تأخذ بعين الاعتبار إن كان هذا التعيين سيوائم توجه الحكومة المقبلة، هذا في حال تغيّرت الحكومة أساساً ولم تستمر هي ذاتها.
من يريد أن يعمل فسيعمل
يدرك المواطنون أنّ الحكومة لا تمتلك عصا سحرية، ولكنّهم يعرفون أنّ من يريد العمل فسيعمل، كان هذا أقرب لرأيّ جماعي قاله مواطنون كثر لـ"النهار العربي".
الأكاديمي الجيولوجي رؤوف حمزة قال لـ"النهار العربي": "في إحدى سنوات الحرب حذرنا الحكومة من إمكان تفجير سدّ الفرات، يوم كانت كل الأطراف تتصارع حوله، وكانت لدينا معطيات فعلاً من خلال تواصلنا مع مهندسين زملاء وأشخاص في المنطقة، ولكن ماذا فعلت الحكومة حينها؟ لا شيء، ولو تفجّر ذلك السد لغرقت ثلث سوريا وصارت أراضيها ومدنها هناك من الماضي، كان وقتها كل مسؤول يرمي القصة على الآخر".
ويكمل: "قدمنا عشرات المقترحات غير السياسية لمعالجة ملف العطش في الحسكة، وبأنّ خزانات الماء يستحيل أن تكون هي الحل ولو لأسبوع واحد، ولكن علينا أن ننظر إلى من وراء صفقة الخزانات أولاً، وهذا بديهي، ثم أن ننفذ دراسة ميدانية دقيقة للموارد الجوفية هناك بحيث يجري استعمالها بالحدود المعقولة، فلا تنضب، ولا يعطش الناس، ولكن أيضاً من دون جدوى".
جلست تتفرج على خرابها
الخبير الاقتصادي ورد رضا أكد أنّه طرح عشرات، وربما مئات المشاريع والحلول الاقتصادية على مستويات مختلفة من المسؤولين لتكون نهاية دراساته في الأدرج المظلمة، يقول: "لأقل أنني الآن كسوري، ومنزلي تهدم، هل أشتري خيمة وأنصبها أمامه وأقضي أيامي أنوح على أطلاله أم أذهب لأعمل ليل نهار ولأبني اتفاقيات وأجد شركاء وأركز في الاقتصاد وأواظب بجدٍ وجهد لأتمكن من إعادة إعمار هذا المنزل من جديد، سوريا فعلت العكس بالضبط، نصبت خيمةً وجلست تتفرج على خرابها وخسارة مواردها من دون أن تفعل شيئاً".
ويضيف: "الحلول دائماً موجودة، وموجودة لأنّ الحرب المباشرة انتهت في عام 2018، وهذه ست سنوات مرّت وكانت الفرصة مواتية لنقف على قدمينا ونفكر من جديد من أين سنبدأ، ولكنّ عقلية الجباية حين تسود لا تسمح للمنطق الاقتصادي الحرّ بأن يتقدم ويقدم التسهيلات للمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر والمتوسطة لتقوم عجلة الاقتصاد عليها من جديد، والدليل؟ الأمر بسيط، سوريا اليوم كلّها مقاهٍ ومطاعم وبالآلاف، ولكن أين المعامل والخيوط والقطن والخبرات؟".