مطلع تموز (يوليو) 2023 قدم توماس شايفر رئيس العلامة التجارية في "فولكسفاغن" دراسة لفريق إدارته، خلاصتها "مستقبل علامة فولكسفاغن التجارية على المحك" وأن التكاليف مرتفعة وهناك انخفاض على الطلب وأن ذلك يترافق مع تزايد المنافسة، محذراً من أن "السقف يحترق". وعدّ ذلك بمثابة أقوى إنذار في تاريخ الأعمال الحديث، بحسب توصيف مجلة "الإيكونوميست".
وبعد سنة على إطلاق صفّارات الإنذار، أعلنت مجموعة "فولكسفاغن" في الثاني من أيلول (سبتمبر) أنها تدرس إغلاق مصانع لها في ألمانيا، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الشركة.
لا يمكن أن يمرّ خبر "فولكسفاغن" كغيره، فهو حدث له تداعيات على أكبر اقتصاد في أوروبا، وعليه مترتبات حرب جيو-اقتصادية بين الشرق والغرب.
خطوة عملاق السيارات الألماني، تكشف عن حجم الضغوط المتزايدة على الأسعار التي تواجهها أكبر شركة لصناعة السيارات في أوروبا من المنافسين الآسيويين، وعلى وجه الخصوص الصين حيث تحاول شركات صناعة السيارات الكهربائية وفي طليعتها "بي.واي.دي" الاستحواذ على حصتها في السوق. وبالفعل خسرت "فولكسفاغن" ما يقرب من ثلث قيمتها على مدى السنوات الخمس الماضية، مما يجعلها الأسوأ أداء بين شركات صناعة السيارات الأوروبية الكبرى.
وسبق ذلك، إعلان "أودي" التابعة لـ"فولكسفاغن" في تموز (يوليو) احتمال إغلاق مصنعها في بروكسل لإنتاج المركبات الكهربائية. وترافق ذلك مع ظهور مؤشرات على أن مبيعات السيارات الجديدة تراجعت في ألمانيا في آب (اغسطس)، مدفوعة بالتراجع القياسي للطلب على المركبات الكهربائية في أكبر سوق للسيارات في أوروبا.
خضة سياسية
التحرك التاريخي لخفض التكاليف عند "فولكسفاغن"، لم تقتصر تداعياته على الاقتصاد إنما وصلت إلى الأحزاب السياسية التي تعيش خضة فوز اليمين المتطرف للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية في انتخابات الولايات. فقد القى القرار بثقله على المستشار أولاف شولتس خصوصاً أن ائتلافه الحكومي يرزح تحت ضغط الأحزاب المعارضة، ومن المرجح أن يواجه المزيد من المشاكل مع تحرك النقابات العمالية. فيما رأى زعيم المعارضة فريدريش ميرتس رئيس الحزب المسيحي الديموقراطي أن خطط التقشف المشددة لمجموعة "فولكسفاغن" هي دعوة لإيقاظ السياسة الاقتصادية للحكومة الألمانية، محذراً من أن بلاده "لم تعد قادرة على المنافسة بالقدر الكافي".
وفي العام الماضي، فقدت الشركة ريادتها كأكبر علامة تجارية للسيارات مبيعاً في الصين على مدى ربع قرن، وذلك لصالح شركة "بي واي دي" المحلية.
أكثر من ذلك، "فولكسفاغن"، ثاني أكبر شركة لصناعة السيارات في العالم بعد تويوتا، ليست الشركة الوحيدة التي تعاني من "اختفاء" حصتها السوقية في الصين. فالأمر عينه بالنسبة لشركة "فورد" و"جنرال موتورز" إذ إن المستهلكين المحليين يبتعدون عن العلامات التجارية الأجنبية لشراء الصينية بدلاً منها، بحسب البيانات الأميركية.
حرب كهربائية
بالنسبة لمراكز القرار في الدول الغربية، فإن مصنعي السيارت الكهربائية في الصين لا يكتفون بتحقيق نجاحات في أسواقهم المحلية على حساب نظرائهم الغربيين، بل أن الصادرات شهدت ارتفاعاً هائلاً تجاوزت 60 في المئة عام 2023 مقارنة بالعام الذي سبق، ما جعل الصين أكبر مصدر للسيارات في العالم، متقدمة على اليابان وألمانيا. وعليه فإن الشركات الأوروبية والأميركية باتت تواجه منافسة متزايدة من العلامات التجارية الصينية داخل أسواقها. كما تستثمر الشركات الصينية بكثافة في إنشاء مصانع للسيارات الكهربائية في أوروبا، بما في ذلك تصنيع البطاريات الخاصة بها.
وفي هذا السياق، تقول CNN إنه بحلول عام 2030، قد تشهد شركات صناعة السيارات الصينية مضاعفة حصتها في سوق السيارات الكهربائية العالمية إلى ما يقرب من الثلث، في ظل معاناة الشركات الأوروبية من أكبر خسارة في حصة السوق نتيجة لذلك.
ولأن السياسة ابنة الاقتصاد، فقد دفع هذا التهديد بأوروبا وأميركا الشمالية نحو رفع التعريفات الجمركية على السيارات الكهربائية المصنوعة في الصين. وفي نهاية آب (اغسطس) أعلن رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو فرض رسوم جمركية بنسبة 100 في المئة على واردات السيارات الكهربائية الصينية اعتباراً من الشهر المقبل بحجة "المنافسة غير النزيهة". كما كشف عن ضريبة إضافية بنسبة 25 في المئة على واردات منتجات الصلب والألمنيوم من الصين اعتباراً من 15 تشرين الأول (أكتوبر) القادم.
هذه السياسات تأتي في محاولة للتخفيف من المنافسة المتزايدة من الشركات الآسيوية الأقل تكلفة. وتعتبر بروكسل أن أسعار السيارات الصينية منخفضة "بشكل مفتعل" بسبب الدعم الحكومي الذي يشوّه السوق ويضر بالقدرة التنافسية للمصنعين الأوروبيين.
والإجراءات الحمائية الغربية، تُبقي العلاقات الثنائية مع الصين على حافة التوتر المتصاعد أصلاً في إطار الصراع الجيو-استراتيجي. والصين بدورها تتخذ إجراءات مماثلة إذ إنها تستهدف سلعاً غربية بتعريفات جمركية مقابلة، أو أنها تقوم بوقف استيرادها كما حصل مع البراندي الفرنسي قبل زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ إلى باريس في أيار (مايو) الماضي.
وفي خطوة تحذيرية، أعلنت بكين أنها ستفتح تحقيقا في "مكافحة الإغراق ببذور الكانولا الكندية"، على أن تقدم شكوى إلى منظمة التجارة العالمية. و"التحقيق" الصيني يبدو أنه ردّ انتقامي واضح على الرسوم الجمركية الباهظة التي فرضتها أوتاوا على السيارات الكهربائية الصينية المستوردة.
كذلك بالنسبة للاتحاد الأوروبي، إذ أعربت المفوضية الأوروبية عن ثقتها من أن الرسوم على السيارات الكهربائية الصينية تتماشى مع قواعد منظمة التجارة.
هذه الحرب الاقتصادية، وصلت حدّ تحذير "تحالف الصناعيين الأميركيين"، في شباط (فبراير) الماضي، من أن وصول السيارات الكهربائية الصينية الرخيصة قد يكون بمثابة "حدث على مستوى الانقراض" بالنسبة لشركات صناعة السيارات الأميركية.
وفي حديث إلى مجلة "النيويوركر" قبل شهرين، أشارت إلاريا مازوكو، الخبيرة في السياسة الصناعية الصينية في "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" في واشنطن إلى أن الشركات الصينية "تمكنت من خلال الابتكار في تقنيات الإنتاج من خفض التكاليف، ثم إعادة استثمار رأس المال في البحث والتطوير".
وفي خطوة أكثر تقدماً، أشارت "الإيكونوميست" في تقرير لها في تموز (يوليو) الماضي إلى أن الصين قيّدت بالفعل صادرات الغاليوم والغرمانيوم، وهما معدنان تسيطر الشركات الصينية على إنتاجهما وهما حاسمان لجميع أشكال الإلكترونيات، بما في ذلك تلك المستخدمة في السيارات الكهربائية.
وتبقى الإشارة إلى أن شركة صناعة السيارات الصينية "بي واي دي" أعلنت ارتفاع صافي أرباحها بنسبة 24,4 % للنصف الأول من عام 2024، مدعومة بالطلب القوي المستمر على السيارات الكهربائية في أسواقها المحلية والخارجية.