هل سمعتْ عن "الانفجار العظيم" Big Bang؟ الأرجح أنك فعلتْ. هل تعرف متى يُعتَقَد بأنه حدث؟ ربما تندفع إلى الرؤوس أرقام تدور حول 13.6 مليار سنة. وقد اخترتُ هذا الرقم لأن هناك كتاباً اتّخَذَه عنواناً له، باعتباره حقيقة ثابتة. في المقابل، بلغ التغيير والتبديل والتصحيح والتنقيح، عبر بحوث علمية ضخمة استغرقت سنوات طويلة، ولا تزال مستمرة، إلى حدّ أن البحوث الجديدة تعتقد أن تاريخ "الانفجار العظيم" قد يساوي ضعفي ذلك الرقم أو أكثر. ألا يدعو القول بأن الـ13.6 مليار سنة حقيقة علمية "ثابتة" إلى رفع الحاجبين قبل رفع "الكارت الأحمر" بوجه تلك الجملة؟
الثبات ليس من صفات العلوم
بالتالي، فالأرجح أن لا شيء يدفع بعضلات بطني إلى التحرك في موجات من السخرية، حتى مع الأزيز الذي لا ينقطع للمسيّرات ودوي القصف واختراقات جدار الصوت، أكثر من عبارة "حقائق علمية ثابتة"!
حينما أسمعها، يتدفق الأدرينالين إلى دمي، وأحياناً أبتسم بمرارة. لا يأتي الضحك من الكلمات وحدها.
وفي أحيان قليلة أكون بمزاج سيّئ، فأرى أن لا شيء يُسيء إلى العِلم وفهم الناس له أكثر من هذه العبارة التي لا تتضمّن شيئاً من مفهوم العلوم الحديثة وجهودها ومساراتها.
ماذا تعني جملة "حقائق علمية ثابتة"؟
إن "ثَبُتْ" شيء يمكن تعلّمه من العلوم وتاريخها، فالأرجح أنه يتمثل بأن العلم لا يفكر في الوقائع والمعطيات التي يتوصل إليها ويبرهنها، إلا باعتبار أنها غير ثابتة، وأنها قابلة للتغيير والنقد، بل حتى للنقض.
بديهي القول إن هناك حقائق ثابتة بهذا المعنى، ولكن خارج العلوم الحديثة التي استهلّت مسار منهجيتها مع القرن السادس عشر في الغرب.
مثلاً، بإمكان رجال الدين أن يتحدثوا عن حقائق ثابتة، لا تتغيّر ولا تتبدّل ولا تخضع لمنطق الاختبار، ولا توضع على محكّ التجربة والزمن. والأرجح أن العلوم لها شأن آخر.
الحقائق تحثُّ على التحدّي والتفكير النقديّ
أتخيّل أنه لو جئنا بعالِم من القرن الماضي، ثم جلس قرب كومبيوتر متّصل بالإنترنت، ثم طلبنا منه أن يحدّثنا عن حقائق العِلم، وفق ما يعرفها (بالطبع، قد لا نستخدم كلمة "ثابتة" لأنها قد تثير ضحكه أيضاً)، وبحثنا عن وضع هذه الحقائق، فماذا ستكون النتيجة؟
قبل وفاته، فهِم آلبرت أينشتاين أنه أخطأ بخصوص "الثابت الكوني" Cosmic Constant. دعاه عالِم الفلك إدوين هابل إلى مرصد، وأظهر له بالوقائع والسِجِّلات أن الكون يتمدّد باستمرار، مما يعني أن حدوده ليست ثابتة بحسب ما افترض أينشتاين، الذي ذهب إلى حدّ وضع أرقام محدّدة لتلك الحدود!
في المقابل، ليس عدم ثبات حقائق العلوم بالأمر السيِّئ، ولا ينتقص من مكانة العلوم. على العكس تماماً، إن تبدّل حقائق العلوم وتغيّرها يشكّل وصفاً لمسار العِلم.
بالعودة إلى أينشتاين، لم يعنِ نقد هابل لنظريته أنها ليست علمية، ولم يبطلها. ما زال العلماء يعتمدون رؤية أينشتاين للكون وجاذبيته و"قماشة" الزمان-المكان وغيرها.
في المقابل، لا يتورّع بعض من يتناقشون على فضائيات العرب، أحياناً بثقة وهدوء مستفِزَّينِ، عن ترداد عبارة "الحقائق العلمية الثابتة تقول كذا". كم كتاباً في العلوم الحديثة ومنهجياتها قد قرؤوا؟ لستُ أدري.
في الغرب، يستعملون عبارات أكثر لطفاً وتواضعاً، إذ يستعمل العلماء (كذلك معظم السياسيين) عبارة من نوع "بحسب أفضل معارفنا حاضراً". وتفيد تلك التعابير بتفهُّم أن المعرفة متغيّرة، وما نعتبره الآن أفضل معرفة قد يصبح مجرد نقطة على الخريطة الكبيرة للعلوم.
نسبية الضلال والأبعاد المتشابكة للوقائع
هذا يوصلنا إلى سؤال عن مسألة تغيّر المعرفة العلمية.
لا أحد يقول إن نظرية إسحاق نيوتن عن الجاذبية لا تستطيع أن تفسّر أشياء كثيرة، بل إنها أفضل ما نعرف عن أحوال الأجسام الفيزيائية وعلاقاتها وجاذبيتها... لحد الآن. ولكن نظرية نيوتن لا تنطبق على العلاقات بين مكوّنات الذرّة مثلاً. وقد أظهرت نظرية أينشتاين بشأن الوقت ونسبيّته المدى المحدود الذي تنطبق فيه رؤية نيوتن على الوقت في الكون. واستطراداً، لا شيء يمنع من أن يظهر نقدٌ آخر لنظرية نيوتن، قد يجعلها مجرّد ذكرى؛ ولا شيء يمنع من أن يتبيّن أن نظرية أينشتاين لا تصلح لتفسير حركة الضوء أو علاقتها مع الزمن مثلاً، مما قد يضرب أساسها العميق. لكن العلماء ما زالوا قادرين على العمل استناداً إلى تلك النظرية، بانتظار أن يظهر أنها "ليست ثابتة".
وليس هذا الأمر مرعباً إلا بالنسبة إلى أصحاب الحنجرات العربية القوية والأصابع الممدودة باتجاه الآخر (وهو على خطأ دائماً، بالطبع...)، لأن هؤلاء يعرفون "حقائق علمية ثابتة"، على عكس حال علماء وكالة "ناسا" أو بحّاثة "معهد ماساشوستس للتقنية".
حتى الطريقة التي ندحض فيها الرأي الآخر تثير الضحك (والخوف أيضاً)، لأننا نعمل على نفي صوابية رأيه كلياً، فيما المسائل قد تحتمل أكثر من تفسير. هنالك مؤلَّف للكاتب العلمي الراحل إسحاق عظيموف، وهو من يحمل عنوان "نسبية الضلال". يعطي مثالاً لهذه النسبية. سطح الطاولة مستقيم، وحدوده ترسمه خطوط مستقيمة. لكن العلم يقول إن الخط المستقيم ربما كان جزءاً من خط مقوّس دائري ضخم. إذن، من يقول إن الخط على سطح الطاولة مستقيم، هو مُحق ضمن حدود، ومن يقل إن ما نراه مستقيماً ليس سوى جزء من خط مقوّس هو محقّ أيضاً، لكن ضمن حدود أخرى!
والأرجح أن هذه النكتة المتكررة عن "الحقائق العلمية الثابتة"، تحتاج إلى مزيد من النقاش.