النهار

فنجان القهوة الصباحي بين اليقظة المطلوبة والوهم المخادع
فرح نصور
المصدر: النهار
"لا تتحدث معي حتى أشرب قهوتي الصباحية" أو "القهوة أولاً". عبارات لا ننفك نسمعها ونقرأها في إعلانات كثيرة.
فنجان القهوة الصباحي بين اليقظة المطلوبة والوهم المخادع
- القهوة تؤثر كعادة فيما يحرك الكافيين مراكز في الدماغ (بيكسلز)
A+   A-

"لا تتحدث معي حتى أشرب قهوتي الصباحية" أو "القهوة أولاً". عبارات لا ننفك نسمعها ونقرأها في إعلانات كثيرة. ربما بات صباح عدد لا يُحصى من الأفراد، يبدأ بعد أول رشفة من القهوة، ولا شيء قبل ذلك.

 

وبحسب غالب، مدقق لغوي في الخمسين من عمره، "فور استيقاظي أشرب القهوة، وتلك عادة ألتزمها منذ ما يفوق 35 سنة. إذا مرّت ساعتان أو أكثر صباحاً من دون شربي القهوة، أحسّ بوجع في رأسي وتعب في جسمي. وبعد الظهر، أشعر بأنّ طاقتي انخفضت لكني أتحسّن فعلاً حين أشرب القهوة".

ويتفق محمد، شاب ثلاثيني وموظف في مصرف، مع غالب، فيقول، "القهوة هي أول ما أفكر فيه عند استيقاظي صباحاً. ورغم تحذير الطبيب لي من شربها على الريق، لكن لا شيء يحسّن من مزاجي صباحاً سواها، وأشعر بأنّه لا يمكنني الحديث مع أحد في العمل قبل هذه الفترة الخاصة بي".

صحيح، تجاوزت القهوة كونها مشروباً لذيذاً لا يفارق الجلسات الاجتماعية، وأصبحت جزءاً لا يتجزّأ من روتين الصباح للملايين حول العالم، سواء فرادى في منازلهم لبدء نهارهم، أو في مكاتبهم لتحفيز إنتاجيتهم.

 

هل تملك القهوة كل هذه التأثيرات المعتقَدة؟

 

بحسب دراسة منشورة على موقع "ساينس دايركت"  Science Direct بعنوان  Caffeine-Not just a stimulant [ترجمتها، الكافيين، ليس مجرد منشط]، يؤدي استهلاك كميات معتدلة من الكافيين إلى نتائج مثل زيادة توفر الطاقة، تقليل التعب والجهد، تعزيز الأداءين البدني والمعرفي، زيادة اليقظة، تقليل التعب العقلي، زيادة القدرة على التركيز والانتباه، تعزيز الذاكرة القصيرة المدى وغيرها.

 

وكذلك نشر موقع "فرونتييرز إن. أورغ"  frontiersin.org أخيراً، دراسة حديثة عن علاقة عادة تناول القهوة وبين تأثيرها على شبكات عصبية معينة في الدماغ  Coffee consumption decreases the connectivity of the posterior Default Mode Network (DMN) at rest ، أنّ عادة استهلاك القهوة بحدّ ذاتها، وليس الكافيين كمادة، تزيد من نشاط الدماغ المرتبط بالمعالجة البصرية والوظائف الإدراكية العليا، أي الروابط بين الأشياء التي نراها وبين ما يختزنه الدماغ عنها من معلومات ومشاعر وذكريات وغيرها. ويُضاف إلى ذلك أن القهوة تحتوي مُركَّبات مختلفة تؤثر على الدماغ بطرق مختلفة، بما في ذلك تلك التي تُنشِّطْ مادة "دوبامين" التي تعزز الذاكرة وتضع الجسم والدماغ في حال استنفار واستعداد وتنبُّه.

 

One coffee, many materials and effects

 

هل فعلاً للقهوة تأثير اليقظة صباحاً أم لها تأثير الـplacebo؟

 

حديث خاص

الدكتور جورج حنا، إختصاصي بأمراض الدماغ والأعصاب وأستاذ محاضر في الجامعة اليسوعية، قسم العلوم الاجتماعية

 

تتألف القهوة بشكل أساسي من مادة الكافيين المحفِّزة التي تُعزّز وعي الأشخاص الدماغي، ما يسهم في زيادة التركيز والتقليل من تعبهم. ويتشابه الكافيين مع مواد محفِّزة كتلك التي تُعطى مثلاً للجنود لكي يبقوا يقظين لفترات طويلة وفي حالات معينة. 

 

وقد تساعد القهوة في الوعي الذهني في فترة الصباح، لكن الجمل التي تُتداول على غرار "القهوة أولاً" أو "إن لم أشرب قهوتي صباحاً رأسي يؤلمني"، تعود إلى العادات الاجتماعية وعوامل نفسية.

ولا دور للقهوة في الإنتاجية، فيما يندرج تناولها أثناء أوقات الراحة في العمل أو مع الزملاء، ضمن العادات أو العلاقات الاجتماعية.

لذا، الوقت الأمثل لشرب القهوة في فترة الصباح، هو بعد ساعة إلى ساعتين من الاستيقاظ. ويفضّل تناولها على معدة ممتلئة، لأن شربها على معدة فارغة يحفّز إفراز هرمون الكورتيزول المسؤول عن التوتر، ما قد يرفع من مستوى السكر والضغط في الجسم.

 

وكذلك يؤدي الإفراط في تناول الكافيين إلى أعراض جانبية كزيادة الارتجاف، وتسارع نبضات القلب، وزيادة الشعور بالغضب وردود الفعل الانفعالية.

يمكن أن نجد الكافيين في مشروبات أخرى غير القهوة، مثل الشاي أو بعض مشروبات الطاقة والمشروبات الغازية غير الصحية والضارة، كونها تحتوي أيضاً مكوِّنات سيئة متنوعة، وكمية كبيرة من الكافيين.

 

 

للقهوة تأثير نفسي وحسّي على يقظتك!

 

قد تنبع التأثيرات المختلفة لشرب القهوة كعادة، من تكرار التجربة الحسية لشربها. وقد تنشأ أيضاً من مركبات أخرى داخلها. إذ قد يحدث تفاعل بين مكونات فيها مثل تريبينول Terpineol  وكافستول Cafestolومجموعة بوليفينول Polyphenols  (التي ترتبط بانخفاض خطر الإصابة بالاكتئاب)، وبين مستقبِلات على أعصاب الدماغ المختلفة، ما قد يزيد النشاط ويُحسّن الحالة المزاجية ويحفز الحالة الإدراكية والمعرفية.

 

في مسارٍ موازٍ، تملك القهوة تأثير "الدواء الوهمي" أو placebo effect. إذ يمثل شربها في بداية يومك قاعدة اجتماعية تعود إلى ثقافة المجتمعات، وبالتالي، قد يربط عديد من الأشخاص "قهوة الصباح" بـ"الاستيقاظ"، وربما الانتاجية. وبحسب حنا، "لكن هذا الأمر لا أساس علمياً له. إن الاستعداد ليومك بقهوة الصباح يشكّل تجربة جماعية منبثقة من حملات تسويقية ربطت النشاط الصباحي بشرب القهوة، ورسّخته في أذهان الناس".

 

البُعد النفسي أيضاً وأيضاً

 

في جانبها النفسي، قد يفسَّر تعلّق الناس بالقهوة صباحاً وخلال وقت الراحة في دوام العمل، بالتقليل من التوتر. وتناولت دراسة في العام 2022 مسألة شرب القهوة والاضطرابات النفسية عند البالغين، وقد نشرها موقع "ريسرتش غيت" Research Gate البحثي بعنوان Coffee and caffeine intake in relation to symptoms of psychological disorders among adults. ووجدتْ الأفراد الذين تناولوا القهوة أسبوعياً أو أكثر، انحفضت لديهم كثيراً إمكانية الإصابة بالاكتئاب والقلق.

ووجد الباحثون أن أنماط نشاط أخرى تزداد بين شاربي القهوة، وقد تعود التجربة الحسّية لشرب القهوة، وكذلك تأثير مكوّناتها المتعددة الأخرى.

إذ إنّ عادة تناول القهوة يؤدي إلى انخفاض مستوى النشاط الأساسي، أي الذي يستمر أثناء فترات الاسترخاء، في مناطق معينة من الدماغ تتعلق بالتفكير بالذات والتأمل بلا تركيز. ويشبه ذلك الأمر نوعاً من التفكير الضبابي، فكأنه "يشوش" على الأفكار المُركَّزة والتخطيط الواعي للنشاط الجاري والمستقبلي. وللتوضيح، ترتبط زيادة نشاط تلك المناطق في الكآبة المرضية مثلاً. وفي المقابل، يحسن الكافيين الترابط بين مناطق الأحاسيس والمشاعر، وبين القسم الأمامي من الدماغ المتخصص بالأعمال المنسقة وصنع مخططات واضحة عمّا يجب تنفيذه، سواء في الزمن الراهن أو ما يليه. وهذا قد يفسّر سبب تحسّن الكفاءة النفسية-الحركية بعد شرب القهوة مع ما تحتوية من الكافيين.

اقرأ في النهار Premium