لا شك في أنّ دخول مولود جديد إلى حياة الأسرة يغيّر حياة الأب والأم على حدّ سواء. وفي الوقت الذي اعتدنا فيه على التغيّرات التي تعيشها الأم بعد الولادة، على مستويات عديدة، أثبتت مجموعة من الدراسات أخيراً خضوع الأب "الجديد" لتطورات عصبية بعد ولادة طفله الأول، إذ يعيش تغيّرات في داخل دماغه تؤثر في صحته العقلية.
فقد أشارت دراسةبعنوان "Sleep, mental health and wellbeing among fathers of infants up to one year postpartum: A scoping review"، إلى أنّ إرهاق الآباء يزداد بشكل ملحوظ مع تقدّم عمر الرضيع، وارتبطت مشكلات نوم الآباء بضعف الصحة العقلية، والعلاقات مع الشركاء، والالتزام بالسلامة في العمل.
وخلُصت دراسة أخرى بعنوان"Fathers' views and experiences of their own mental health during pregnancy and the first postnatal year: a qualitative interview study of men participating in the UK Born and Bred in Yorkshire (BaBY) cohort"، إلى أنّ الرجال أبلغوا عن ضغوط يتعرّضون لها كالإرهاق وضعف التركيز والانفعال، مشدّدين على الحاجة إلى الدعم والحماية من الشريك باعتبارهما عنصرين أساسيين في إدارة الأبوة بنجاح.
وتفيد دراسة بعنوان"Changes in left hippocampal volume in first-time fathers: Associations with oxytocin, testosterone, and adaptation to parenthood" بأنّ دماغ الأب قد يخضع لإعادة تشكيل تدعم التكيّف مع الأبوّة الجديدة، إذ من بين 38 رجلاً تمّ تصويرهم بالرنين المغناطيسي (MRI)، قبل وبعد ولادة طفلهم الأول، ارتبطت الاختلافات الفردية في تغيرات حجم الحُصين الأيسر بالأوكسيتوسين قبل الولادة لدى الرجال، والتستوستيرون بعد الولادة، والتكيف بعد الولادة مع الأبوة. وقد أظهر الآباء الذين لديهم مستويات أعلى من الأوكسيتوسين قبل الولادة زيادات أكبر في حجم الحُصين الأيسر خلال فترة الانتقال إلى الأبوة. وتنبأت الزيادات الكبرى في حجم الحُصين الأيسر بانخفاض مستوى هرمون التستوستيرون بعد الولادة بعد تعديل مستوى هرمون التستوستيرون قبل الولادة.
أسرار الأبوة في الدماغ
وقد لوحظت انخفاضات في حجم المادة الرمادية في الدماغ في الفترة المحيطة بالولادة لدى الآباء، الذين أفادوا بوجود ارتباط أقوى بعد الولادة مع الطفل. وتنبأت الانخفاضات الكبرى في الحجم بمزيد من مشكلات النوم بعد الولادة، وبمستويات أعلى من الاكتئاب والقلق والضيق النفسي بعد الولادة، مع التحكم بالنوم قبل الولادة والصحة العقلية، وفق ما خلُصت إليه دراسة "Cortical volume reductions in men transitioning to first-time fatherhood reflect both parenting engagement and mental health risk". لكن هذا الانخفاض لا يعني فقدان وظيفة الدماغ أو تدهور في المعرفة، بل هو تغيّر للتكيف مع حالة الأبوة، وقد يؤدي ذلك إلى تبسيط طريقة عمل الدماغ وجعله أكثر كفاءة.
هرمونات الرجل وجزء من دماغه يتغير مع المولود الجديد…ما السبب؟
حديث خاص
الدكتورة نادين عقل- معالجة نفسية وأستاذة محاضرة في جامعة الروح القدس الكسليك
أثبت العلم التغيرات الفيسيولوجية المسببة للتغيرات السلوكية التي تؤثر على الصحة العقلية للشخص. وفي هذا الإطار، أثبتت دراسات حديثه حدوث تغيرات جسدية لدى الشاب حينما يصبح أباً، خصوصاً في المرة الأولى. وأُثبت هذا الأمر بوساطة صور الرنين المغناطيسي، التي أظهرت أنّ انخفاض المادة الرمادية في الدماغ، بأثر من الأبوة المستجدة، تؤدي إلى تغيير تصرفات وسلوك الأب وكيفية تعاطيه مع الحدث الجديد في حياته، إذ يدعم انخفاض المادة الرمادية في دماغ الأب شعور برابط قوي مع طفله، لأنّ هذه المادة مسؤولة عن حل المشكلات والذاكرة والتفكير والتحليل.
ولدى وقوع حدث جديد في حياة أي إنسان، تتغيّر الهرمونات التي يفرزها الدماغ. وحينما يصبح الرجل أباً، ويحمل طفله للمرة الأولى، يفرز جسمه الأوكسيتوسين بشكل كبير، ويُرسل رسائل إلى الجسم بوجوب التصرف بحكم السعادة التي يشعر بها. ويُعرف عن الأوكسيتوسين أنه هرمون الحب والسعادة. وكلّما عاش الأب هذا التدفق من المشاعر، يبرمج دماغه على ربط سعادته بارتباطه بطفله. لذلك، فإنّ الهرمونات توجّه الأب نحو السلوك الذي سيعتمده، فإمّا أن يكون لمصحلة الحادث أم لا.
شرق وغرب في الأبوة أيضاً
وعلى مستوى تأثير الشعور بالأبوة للمرة الأولى على الصحة العقلية، فإنّ الأب يشعر بعاصفة من المشاعر الداخلية حينما يُرزق بمولوده، مما قد يولّد تأثيرات إيجابية أو سلبية. وهذا يفسَّر مدى استعداد الأب للاكتئاب أو القلق أو الإجهاد.
كذلك، قد يعاني الأب بسبب ما يُسمّى بـ "اكتئاب ما بعد الولادة" Post partum Depression كالذي تمر به الوالدة. فمنذ العصر الحجري يناط بالأب دور الإعالة وتحمّل المسؤوليات. وحينما تضاف مسؤولية جديدة إلى مسؤولياته، ومع المشاعر الجديدة حيال طفله، يرتفع مستوى إفراز الكورتيزونات لديه. وإذا كان الأخير من الأشخاص الذين يميلون إلى التوتر، فسيرتفع شعوره بالتوتر مما قد يدخله في حالة من القلق.
وعند معاناة الأب بسبب طفولة فاشلة، سيرتفع التوتر لديه خوفاً من الوقوع في الفشل أثناء إعالة طفله، وقد يصل الأمر إلى أسئلة وجودية يطرحها على نفسه. وقد يفاقم الأمر أحياناً بسبب كون الثنائي مرتبطين حديثاً في إطار الزواج، ولا يعرفان تدبّر أمور الأولاد. يضاف إلى هذه الحالة عدم أخذهما قسطاً كافياً من النوم بسبب المولود الجديد، مما يرفع من هرمون الكورتيزول المسؤول عن التوتر.
وبحسب عقل، ففي المجتمعات الشرقية، لا يسلَّط الضوء على مشاعر الرجل حينما يصبح أباً، لأن الشاب في هذه المجتمعات يقع تحت ضغط المطالبة بأن يكون رجلاً يتحمّل المسؤوليات.
مع مرور الوقت، تنخفض مستويات هرمون التستوستيرون [المسؤولة عن الذكورة] لدى الآباء ممن يقضون وقتاً أطول في رعاية الأطفال. ويعاود ذلك الهرمون الارتفاع حينما تنخفض مساهمة الرجل في رعاية طفله.
وهذا الانخفاض يفتح المجال أكثر للأب لتحمّل المسؤولية وليكون أباً عطوفاً محباً، أكثر من الرجل العازب. وقد يظهر ذلك على سلوك الرجال عادة حينما يصبحون آباء، إذ ترتفع لديهم الهرمونات المسؤولة عن الحب والارتباط والأبوة.