يمثّل تطوّر الكمبيوتر رحلة استثنائية في تاريخ التكنولوجيا. ومن المستطاع النظر إليها من وجهات نظر عدة. وثمة من يربط الحاسوب الحديث مع الأجهزة القديمة التي ابتُكِرَتْ في حضارات متنوعة منذ نشأته الأولى، لتؤدي دور الآلة الذكية. ويندرج في ذلك المِعداد اليدوي "آباكيس" Abacus الذي يربط بالصين غالباً، لكنه عُرِف في حضارات وادي النيل وما بين النهرين والمشرق العربي وأنطاليا وأرمينيا وأوروبا وغيرها.
آلية "أنتيكيثرا" بين حساب الفلك و"أبوة" الكومبيوتر
في ذلك الإطار، من المستطاع الحديث عن أداة مدهشة ابتكرها اليونان، وعُرِفَتْ باسم "آلية أنتيكيثيرا"Antikythera mechanism. ويعود تاريخها إلى القرن الميلادي الثاني. وثمة من يعتبرها، مجازاً، بأنها أول كمبيوتر تناظري [بمعنى أنها لم تكن رقمية ولا تعمل بالإلكترونيات] في العالم. وقد ابتُكِرَتْ لحساب مواقع الشمس والقمر والكواكب بدقة.
اكتُشف هذا الجهاز عام 1901 على يد مجموعة من الغواصين اليونانيين في جزيرة أنتيكيثيرا اليونانية، وأصاب هذا الجهاز الباحثين بالحيرة طيلة قرن من الزمن. وتحتوي تلك الآلة الدقيقة البرونزية على 30 قرصاً مسنّناً. وتؤدي وظائف عدة ملفتة، أبرزها التوقعات الفلكية المتعلقة بالخسوف الشمسي والدورة القمرية ومواقع الكواكب، وحتى تاريخ الألعاب الاولمبية.
ويُعرض الجهاز الأصلي حاليّاً في متحف أثينا الوطني للآثار.
وتسلّط دراسة جديدة قام بها العلماء في "كلية لندن الجامعية" الضوء على وجه آخر للجهاز، الذي يبيّن مفاهيم الكون والفضاء لدى الإغريق.
بحسب البروفسور توني فريث، الاختصاصي في الهندسة الميكانيكيّة والمسؤول عن الدراسة، "إن النموذج الموجود هو الأول الذي نجد فيه، بالإضافة إلى الأدلّة المادية، تعقيدات نظام المسنّنات (التروس) والمواصفات المكتوبة على النظام بحدّ ذاته. هذا يُظهر الإنجاز الملحوظ للهندسة اليونانية القديمة التي تُظهر الشمس والقمر والكواكب في صورة باهرة.".
لقد قطع الباحثون شوطاً كبيراً في فهم عمل هذه الآلة خلال القرن الماضي. وفي العام 2005، أُخِذَتْ صور ثلاثية الأبعاد واخرى بأشعة- إكس وغيرها. وأتاح ذلك للباحثين فهم كيفية عمل الجهاز لناحية توقع الخسوف الشمسي وتتبع حركة القمر. ولم يؤدِ ذلك إلى حل لغز آلية Antikythera mechanism بأكمله.
ولا يزال الغموض يحوط عمل أجزاء منه. ويكمن التحدّي الأبرز في الطبيعة المجزأة للجهاز، حيث أن حوالى ثلث أجزائه لا يزال يعمل، مع الإشارة إلى أن تلك الأداة تضمّ 82 جزءاً.
بيّنت الدراسات السابقة التي نُفّذت بواسطة تكنولوجيا متقدمة في التصوير بأشعة إكس، وجود كتاباتٍ مخفيّةً على البعض من أجزائها. واكتُشفت أيضاً رسومات تمثّل الكواكب ومداراتها في الفضاء. واعتمد الباحثون على تلك الصور في تجديد تصوراتهم عن بنية الجهاز.
يحمل الجهاز على واجهته رقمين: 462 و442 يمثّلان مدارَي الزهرة وزحل على مرأى من الأرض. تبدو مداراتهما وكأنّها تلتفّ إلى ما خلف النجوم المرسومة على خلفيّة الجهاز خلال دوراتهما، لكن توقّع مواقعهما يتطلّب متابعة الدورات لفترات زمنيّة طويلة.
وبحسب أريس داكاناليس، العضو في لجنة الأبحاث حول الجهاز، "تعود جذور علوم الفلك إلى بابل في السنوات الأخيرة قبل المسيح، لكن هذا لا يفسّر لنا كيف توصّل الإغريق إلى هذه النتائج الدقيقة بالنسبة إلى مدارات الكوكبَين.".
واستكمالاً، فقد استطاع الباحثون وبواسطة الرياضيّات الإغريقيّة القديمة من تحديد مصدر دورتي الزهرة وزحل، كما استطاعوا تحديد مدارات باقي الكواكب بنجاح، بالرغم من عدم توافر البراهين.