كلّنا يسجل ملاحظة أو تذكيراً أو رقم هاتف على ورقة. لكن متى كانت المرّة الأخيرة التي كتبت فيها صفحة كاملة بخط يدك؟ ربما منذ سنوات طويلة؟ أنا شخصياً، خط يدي تغيّر، وخلال الكتابة لم تعد يدي مطواعة وتتماهى مع القلم كالسابق.
لقد حتّمت تكنولوجيا المعلومات إزالة استخدام الورقة والقلم من مختلف أوجه حياتنا، بهدف تحقيق تقدّم في عوالم الاتصال والتواصل. في المقابل، الأرجح أن تلك الخطوة قد هدمت وظائف ذهنية ونفسية لدى من يتكلون بصورة كلية على لوحة المفاتيح.
أضرار متنوعة للعزوف عن الكتابة اليدوية
على نطاق واسع، اندرج تعلّم التقنيات الحديثة ضمن البرامج التربوية في المدارس التي يتصاعد فيها الاتكال على استخدام الحواسيب وألواح الطباعة وغيرها. وتعزز الملمح نفسه، بصورة أشدّ قوة وكثافة بما لا يُقاس، مع انتشار الهواتف الذكية والألواح الرقمية التي باتت تلازمنا طوال اليوم، بحيث لا نستخدم سوى إصبعين لطباعة رسالة قصيرة أو تصفّح منصات التواصل.
ثمة دراسة عن أهمية الكتابة باليد نشرها موقع "جمعية العلوم النفسية" تحت عنوان "حبر على ورق: ملاحظات عن تدوين الملاحظات" Ink on Paper: Some Notes on Note Taking ،. وقام بها الباحثان بام مولر ، من "جامعة برنستون"، ودانيال أوبنهايمر، من "جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس". وتوصل العالمان إلى أنّ تدوين الملاحظات باستخدام القلم، بدلاً من الكمبيوتر المحمول، يمنح الطلاب فهماً أفضل للموضوع، والطلاب الذين سجّلوا ملاحظاتهم بخط اليد كانوا أكثر قدرة على الإجابة عن الأسئلة في المحاضرة، من أولئك الذين يستخدمون الكمبيوتر المحمول.
كذلك تبين لمولر وأوبنهايمر، أن من يميلون إلى استخدام الورقة والقلم يعيدون صياغة المعلومات أثناء تدوين الملاحظات، الأمر الذي يتطلّب منهم إجراء عملية أولية من التلخيص والفهم. على النقيض من ذلك، فإن أولئك الذين يعملون على لوحة المفاتيح يميلون إلى تدوين كثير من الملاحظات، وأحياناً حتى عمل نسخ حرفية، لكن مساهمتهم الذهنية فيه تكون متدنية تماماً.
وعلى نحوٍ مشابه، وجدت دراسة أُجريت في مطلع 2024 وحملت عنوان "الكتابة اليدوية وليس الطباعة، تعمل على نشر التوصيلات بين أعصاب الدماغ: دراسة مكثفة للتخطيط الكهربائي، مع خلاصات مهمّة للمدارس" Handwriting but not typewriting leads to widespread brain connectivity: a high-density EEG study with implications for the classroom، أنّ الكتابة بالطباعة على لوحة المفاتيح أسرع من الكتابة باليد، لكنها أقل تحفيزاً للدماغ، إذ تؤدي الأخيرة إلى تحسين التعلّم والذاكرة.
هل تفيد الكتابة وظائفنا الدماغية؟
حديث خاص
الدكتور جورج حنا، اختصاصي بأمراض الدماغ والأعصاب، وأستاذ محاضر في الجامعة اليسوعية - قسم العلوم الاجتماعية
وظيفة الكتابة تأتي من الجانب الأيسر من الدماغ. ويتعلّم الفرد تلك المهارة منذ صغره، ومَن لم يتعلّمها قد لا يتمكن من الطباعة. بالتالي، لا نتحدث عن خسارة وظائف دماغية عندما ننتقل من الكتابة إلى الطباعة.
وبصورة مستمرة، يجري التدرّب على كل المهارات، كالقراءة والكتابة. وبمجرد اكتساب الإنسان لمهارة وتعلّمها وترسخها في ذهنه، فإنها تستمر وتصبح لديه أمراً أوتوماتيكياً واستجابة تلقائية. لذلك، إنّ ما نتعلمه في الصغر من مهارات تكون الأكثر أهمية، ومن بينها مهارة الكتابة.
خلال ممارسة الكتابة يشغّل الإنسان عدداً أكبر بكثير من الشبكات العصبية مقارنة بالطباعة أو باستخدام الألواح والهواتف الذكية. لكن الطباعة تحتاج أيضاً إلى التركيز والنظر وتأليف ما يُراد أن يُكتب واستخدام الأصابع. بالتالي التحوّل إلى الطباعة على لوحات المفاتيح لن يلغي مهارة الكتابة ولا الوظيفة الدماغية التي توفرها.
وصحيح أنّ الانقطاع عن الكتابة قد يؤدي بالفرد إلى تغيّر خط يده، بسبب قلة ممارسة الكتابة، لكن هذا ليس دليلاً على ضعف الوظائف الدماغية.
أهم ما يجب التركيز عليه في موضوع اكتساب مهارة الكتابة هو في مرحلة الطفولة، فأدمغة الأطفال "عذراء"، ويجب تشغيل كافة أجزائها لتفعيل جميع الشبكات العصبية فيها. وهذه الشبكات، حتى لو لم تتمرن باستمرار طوال الوقت، فلن يصيبها أي خلل أو تلف، وذلك بسبب الذاكرة الإجرائية التي يتحلّى بها الإنسان في هذا النوع من الوظائف. وحينما يتعلّم الشخص الكتابة منذ صغره لا ينساها مدى الحياة، حتى لو انقطع لسنين عنها. ويحدث أمر مماثل مثلاً بالنسبة إلى تعلّم قيادة السيارة.
وفيما يؤدي الانقطاع عن الكتابة إلى تأثير محدود على الوظائف الدماغية، إلّا أنه ثبُت علمياً أنّ الكتابة مفيدة للوقاية من مرض الزهايمر، وإبطاء مسار أعراضه لدى المصابين به. إذ تسهم الكتابة اليدوية في تشغيل الدماغ والذاكرة بشكل قوي. وكذلك تعمل تمارين القراءة أو الكتابة أو لعب الورق أو الشطرنج أو طاولة الزهر؛ على تحسين وظائف الذاكرة.
صحتك النفسية تريحها الكتابة... التعبيرية!
أوردت دراسة بعنوان "تأثيرات الكتابة التعبيرية على الصحة النفسية والجسدية: الدور التلطيفي للتعبير عن العواطف" Effects of Expressive Writing on Psychological and Physical Health: The Moderating Role of Emotional Expressivity، أنّ الذين يتمتعون بقدرة عالية على التعبير، أظهروا انخفاضاً كبيراً في القلق بعد ثلاثة أشهر من المتابعة، على عكس من لم يُكثروا التعبير عن عواطفهم.
وبالتالي، فإن الكتابة اليدوية المستمرة للمشاعر التي نعيشها يومياً، قد تساعدنا في:
- علاج القلق. إذ يصبح الفرد أكثر تقبلاً لمشاعره السلبية واستجابته العاطفية للتوتر.
- التغلب على الاكتئاب، عبر كتابة يوميات تتضمن التعبير عن مشاعر إيجابية.
- إدارة الإجهاد النفسي، ما يؤدي إلى تجنب الإرهاق والقلق المزمن.
- خلق مساحة للتفكير والتأمل. وحينما نكون تحت الضغط، يصعب علينا النظر إلى الموقف بموضوعية.
- التعافي من الرضات النفسية، خصوصاً حينما نعاني صدمة عاطفية.