النهار

"أقول لنفسي انشالله نشوف حالات أقل من مبارح"، شهادة طبيب لبناني عن الحرب
ليلي جرجس
المصدر: النهار
يواصل الدكتور زين الدين عمله داخل المستشفى الذي يستقبل يومياً إصابات متنوعة. ويعرف تماماً أن للحرب أثمانها. ويبدو أن الأطباء يخوضون نوعاً من "الحرب" عبر معالجة الجرحى وإنقاذ المصابين. وبالتالي، فقد تحوّل عملهم إلى ما يشبه معركة من دون هدنة.
"أقول لنفسي انشالله نشوف حالات أقل من مبارح"، شهادة طبيب لبناني عن الحرب
عانى أطباء لبنان ضغوطاً مذهلة خلال الحرب (نبيل اسماعيل)
A+   A-

كل يوم قبل أن يذهب إلى عمله، يردّد الدكتور صلاح  زين الدين المدير الطبي لمستشفى الجامعة الأميركية في بيروت عبارة "انشالله نشوف حالات أقل من مبارح".

لطالما عمدت إسرائيل في حروبها إلى اتباع سياسة "الأرض المحروقة"، ومن يتابع المشاهد والصور في مختلف المناطق المستهدفة يُدرك جيداً أن إسرائيل تعتزم حرق "الأخضر واليابس" وإحداث ضرر طويل الأمد في الحجر والبشر.

 

لكن وفق كثير من المراقبين، يبدو أن وحشية العدو في هذه الحرب تخطّت بقوتها وقساوتها الحروب السابقة. ولعلّ ما يشهده القطاع الطبي من الحالات يؤكّد فظاعة الحرب بكل مستوياتها وتفاصيلها.

 

العمل الروتيني صار يوميات حربية

 

يواصل الدكتور زين الدين عمله داخل المستشفى الذي يستقبل يومياً إصابات متنوعة. ويعرف تماماً أن للحرب أثمانها. ويبدو أن الأطباء يخوضون نوعاً من "الحرب" عبر معالجة الجرحى وإنقاذ المصابين. وبالتالي، فقد تحوّل عملهم إلى ما يشبه معركة من دون هدنة.

 

لا يُخفي الدكتور زين الدين صعوبة الوضع. ويعترف "للأسف، حالات الوفيات أكثر من الجرحى في الفترة الأخيرة، على عكس ما كانته في بداية اشتداد الحرب على بيروت، مع تفجيرات "البيجرز" وأجهزة اللاسلكي. وقتها، جاءت معظم الإصابات في العيون واليدين، وكنا نتعامل مع مصابين بحالات معقّدة وجديدة وكثيفة العدد".

وبما أن الضربات تدميرية بشكل قاسٍ، قليلون ينجون منها. ووفق زين الدين: "بالمقارنة مع الأوضاع العادية، فإن الأعداد الكبيرة من الوفيات تجعل نسبتها إلى الجرحى تفوق المعدلات الاعتيادية بما لا يُقاس. ويعود السبب إلى أن معظم هذه الضربات هي نتيجة التفجير المباشر مثل الاغتيالات أو نتيجة سقوط مبانٍ بمن فيها ".

وطبياً، يؤدي سقوط المبنى إلى حالات تسمّى "إصابة السحق" Crush Injury . ويرى الدكتور زين الدين أن "قلة تنجو من هذه الضربات. وغالباً ما تأتي الحالات متوفاة، أو تعاني من إصابات طفيفة لأنها بعيدة بعض الشيء من المكان".

 

كان يوماً قاسياً ومخيفاً 

 

ولأننا في حالة حرب، نعيش مع احتمالات وفرضيات متضاربة عن نوعية الأسلحة والمواد المستخدمة كالفوسفور الأبيض واليورانيوم وغيرها. وقد وثقت جهات دولية استخدام الفوسفور الأبيض، في حين لم يُثبت استخدام اليورانيوم بأي مرجع علمي، ولا يوجد دليل اليوم يؤكّد نظرية استخدامه.

في السياق، يوضح زين الدين أن "الجامعة الأميركية لم تستقبل أي حالة تعرّضت للفوسفور الأبيض. ولكن، قد توجد حالات في مستشفيات الجنوب التي تشهد استهدافات عسكرية متواصلة. في المقابل، من المستطاع القول بأن أصعب الحالات التي واجههاا القطاع الطبي تمثلت في حادثة "البيجرز" التي أدّت إلى آلافٍ من المصابين، معظمهم من الشباب، ويعانون إصابات بليغة في العيون واليدين".

 

وفق الطبيب نفسه، "حينها، واجهنا إصابات متشابهة جميعها بحاجة إلى الجراحات نفسها وفي الوقت عينه. كان يوماً قاسياً وصعباً ومخيفاً بكل تفاصيله. أما الحالات التي نستقبلها في الآونة الأخيرة فمعظمها نتيجة "السحق" بعد سقوط المباني كاملة على الأرض، وتكون نتيجة غالبيتها الوفاة، حيث يقتل الركام الإنسان مباشرة".

 

وكذلك قد تختلف إصابات الحرب بحسب الجغرافيا. وتصل إلى مستشفيات بيروت حالات مختلفة عن تلك التي تدخل مستشفيات الجنوب حيث  الإصابات متنوعة، وبعضها يستدعي جراحات عدة.

وبالعودة إلى حروب سابقة، بما فيها  حرب تموز  (يوليو) 2006، يشير زين الدين إلى أنه "وفق أرقام  وزارة الصحة، شهدنا في يوم واحد  من القصف، وكان ذلك  نهار الاثنين في 23 أيلول (سبتمبر) الماضي، وفاة 558 شخصاً، ما يوزاي نصف الضحايا الذين توفوا في حرب تموز والذين بلغوا قرابة الـ1100متوفٍ. وهذا يدلّ إلى أن كمية الأذية أكبر بكثير مما شهدناها في حرب تموز (يوليو)".

 

معارك نفسية

اختبر زين الدين لحظات صعبة وقاسية. ووفق كلماته "ليس سهلاً أن تشاهدي شباباً في ربيع عمرهم مصابين بعيونهم وأيديهم بما قد يتسبب لهم بإعاقة دائمة. للأسف، شهدنا آلاف الحالات أثناء ضربتي الـ"بيجرز" واللاسلكي في 17 و18 أيلول (سبتمبر) الفائت. وقد عملت غرف العمليات الـ12 في المستشفى بشكل متواصل من نهار الثلاثاء حتى نهار السبت من دون توقف لو ساعة واحدة".

 

ومن هذه المشاهد الصعبة إلى معارك أخرى تعيشها الطواقم الطبية. إذ توجّب على قسم منها أن ينزح مع عائلته، وفَقَد قسم آخر أحباءً لهم، وثمة من اضطرت عائلاتهم للانتقال إلى العيش في مكان بعيد. إن الطبيب فرد في هذا المجتمع، ويعاني ما يعيشه ناسه أيضاً.

ويعترف زين الدين "لقد واضب الأطباء على العمل والاستمرار قيد جهوزية دائمة. وقد أثّر  كل هذا الضغط على صحتهم النفسية بشكل مخيف. ولكن،  قسم الصحة النفسية الموجود اليوم في المستشفى  يساعد في تخفيف التوتر والقلق لدى الطواقم الطبية والتمريضية ".

 

واستطراداً، يؤكّد زين الدين "القدرة البشرية لديها حدودها، ولكنها قد تفاجئك بالطاقة التي تظهر تحت الضغط أو عند الحاجة. ونلمس ذلك بالفعل كل يوم. ونعمل من دون توقف وليس لدينا خيار آخر، حتى نصل إلى مرحلة الانهيار وعدم القدرة على المتابعة. هذا الخطر يوازيه خطر آخر يتمثل باستنفاد المستلزمات الطبية والمعدات. إن ما يُرعبنا حقيقة هو أن ندخل إلى مستشفى ولا نجد المعدات التي نحتاجها في عملنا الجراحي والطبي".

 

لن نستسلم

 

للأسف هناك سيناريوهات مخيفة. وبحسب زين الدين "نحن مضطرون إلى التفكير استباقياً بفرضيات عدة لنكون جاهزين للأسوأ دائماً. وهنالك خلاصتان أساسيتان من تجربة الحرب، تكمن أولاً بالقدرة الهائلة على الصمود والاحتمال التي لا حدود لها عكس ما يعتقد الرأي العام. وتتمثل الخلاصة الثانية في الشعور الحقيقي بالتعب والإرهاق ونوع من الإشمئزاز "ماذا بعد"؟ حالنا كحال المحارب الذي يقاتل من دون أن يضل البوصلة  أو ينكسر أمام التحدّيات والصعوبات. وقد تعلّمنا ألّا نستسلم".

 

ما يُحزن الطبيب، وفق كلمات زين الدين، أنه "كلما كنا نقول إننا شاهدنا أفظع الأشياء، نفاجأ بظهور أفظع منها بكثير . ويدلّ ذلك إلى أن قدرة الإنسان على الأذية للأسف لا حدود لها. وكذلك يُظهر لنا العدو أنه قادر أن يفعل الأسوأ، وحتى أبعد من كل التوقعات".

 


اقرأ في النهار Premium