تدوم معظم الخلايا العصبية في دماغ الإنسان مدى العمر، ولسبب وجيه يتمثل في الحفاظ على المعلومات المعقّدة وطويلة الأمد المحفوظة فيها. بالتالي، يؤدي فقدان خلايا الأعصاب الدماغية إلى ضياع معلوماتها وحدوث تضعضع في الذاكرة على النحو المعروف في النسيان أثناء الشيخوخة.
ومن الملفت أيضاً، أن الدماغ يستمر في إنتاج الأعصاب فيه حتى بعد مرحلة ما بعد البلوغ، بواسطة ما يُعرف بـ"الخلايا الجذعية العصبية" Neural Stem Cells. ولكن، تتدنى كفاءة تلك الخلايا الأخيرة مع تقدّم العمر، ما يُسرِّع تدهور أحوال الدماغ والذاكرة، ويسهم في أمراض مزمنة شديدة الوطأة تشمل الزهايمر وباركنسون، بالإضافة إلى تأثيره سلبيّاً على التعافي من السكتات الدماغية وغيرها.
آلية التجدّد في خلايا الدماغ
وأخيراً، قدَّم تقرير على موقع "ساينس تيك دايلي" تفاصيل عن دراسة جديدة نُشرت في مجلة "نيتشر" Nature تناولت كيفية وأسباب تراجع نشاط الخلايا الجذعية العصبية، بالإضافة إلى اقتراحات عن خطوات واعدة في معالجة خمول تلك الخلايا الجذعية العصبية، وبالتالي تجديد نشاطها في أدمغة الشباب ومتوسطي العمر، بفضل العمل على مسارات معيّنة قد تعيد تنشيط ذلك النوع من الخلايا.
في تلك الدراسة، استخدمت البروفيسورة آن برونيه، أستاذة علم الوراثة، وفريقها تقنية جينية حديثة تُعرف بإسم "كريسبر" CRISPR . وتتيح تلك الأداة قص جينات معينة من الشيفرة الوراثية، وإعادة لصقها في أمكنة اخرى. باختصار، تتيح تقنية "كريسبر" التلاعب بتركيبة الجينوم في الكائنات الحيّة، إضافة إلى التعمق في دراسة الوظيفة التي يؤديها كل جين، أو مجموعة جينية.
واستعملت برونيه أداة "كريسبر" للتعرف على التراكيب الجينية التي قد يؤدي تعطيلها في أدمغة فئران مُسنّة إلى زيادة نشاط الخلايا الجذعية العصبية، لكنها لا تترك تأثيرات مماثلة في الفئران الصغيرة.
الخلايا غير النشطة
بحسب برونيه، وضعت الدراسة يدها على 300 تركيب جيني يؤثر سلبياً في كفاءة عمل الخلايا الجذعية العصبية. وقد بدا ذلك العدد كبيراً جداً. وتواصل عمل الفريق العلمي الذي أنجز تلك الدراسة حتى تقلّصت التراكيب المقصودة إلى عشرة. في تلك النقطة، ركّز الفريق عمله على جين واحد بالتحديد، هو المسؤول عن بروتين، إسمه "غلو تي 4" GLUT4، يتولّى إدخال السكر إلى خلايا الجذعية العصبية، ما يؤدي إلى ارتفاع مستمر في مستوى السكر فيها يُحدث خمولاً في عملها. بمعنى آخر، يمنع بروتين GLUT4 تجديد أعصاب الدماغ مع التقدّم في العمر، ما يؤدي إلى تدهوره بإطراد.
وفي السياق نفسه، لاحظ الدكتور تايسون رويتز، المؤلف الرئيسي للدراسة، أن "هناك أجزاءً من الدماغ، خصوصاً تلك التي تتعلق بالذاكرة والحواس والعواطف، تكون حياة الأعصاب فيها أقصر من بقية أجزاء الدماغ، ما يوجب تجديدها".
ويستطرد: "في هذه الأجزاء الأكثر ديناميكية من الدماغ، على الأقل في الأدمغة الشابة والصحية، تولد خلايا عصبية جديدة باستمرار " وتحل بديلاً من القديمة.
تعطيل جين الخمول
اشتغل رويتز على العلاقة بين تنشيط الخلايا الجذعية العصبية وما تنتِجه من أعصاب جديدة في الدماغ، خصوصاً الأجزاء الديناميكية المشار إليها آنفاً.
من خلال تعطيل الجين GLUT4، حدث انخفاض في تراكم السكر داخل الخلايا الجذعية العصبية، فتنشَّطت وزاد عدد الأعصاب الجديدة التي تنتجها وترسلها إلى الأجزاء الديناميكية المتصلة بأعمال الذاكرة والعواطف والشم. وبالفعل، رصد رويتز وفريقه زيادة ملحوظة في عدد الأعصاب الجديدة في تلك الأجزاء، مترافقاً مع نشاط متجدد في وظائفها وأعمالها.
وفي استنتاج مهمّ، يؤكّد رويتز أن الدراسة ركّزت على مراقبة ثلاث مواصفات رئيسية للخلايا الجذعية العصبية. أولاً، التأكّد من أنها تتكاثر. ثانياً، أن الأعصاب الجديدة التي تُنتِجها تذهب إلى الأجزاء الديناميكية التي اهتمت بها الدراسة. وثالثاً، لوحظ أن الخلايا الجديدة تنشط في تلك الأجزاء، وتؤدي وظائفها، خصوصاً ما يتعلق بالذاكرة والعواطف والشم.
وبالتالي، قد ينفسح المجال أمام تطبيق التقنية نفسها على دراسات إصابات الدماغ، وربما إيجاد سُبُل لتجديد الأضرار فيها.
اكتشاف واعد
في مسار متصل، اعتبرت برونيه أن العلاقة مع البروتين GLUT4 "تعدّ اكتشافًا واعدًا". إذ تتضمن إمكانية تصميم علاجات صيدلانية أو وراثية لتنشيط نمو أعصاب الدماغ في حال تدهورها مع العمر أو معاناتها أضراراً لأسباب أخرى. وأضافت أن تنشيط الخلايا الجذعية العصبية قد يحصل بفضل تدخّلات سلوكية بسيطة نسبياً، مثل اتباع نظام غذائي لا يتضمن حصول الجسم على كميات فائضة من السكر، ما قد يخفف تراكمه في الخلايا الجذعية العصبية. وقد يشكّل ذلك النظام نفسه، بحسب برونيه، بديلاً من استعمال تدخّلات تقنية تتضمن التلاعب بالجينات بواسطة أداة "كريسبر" أو ما يشابهها.