لم يكن أمام مسؤولة قسم التمريض في "مستشفى النجدة الشعبية" في النبطية، وزوجها مسؤول قسم الطوارئ في المستشفى نفسه، سوى قرار المكوث فيه، مع ابنتيهما البالغتين من العمر 10 سنوات و6 سنوات بعد اشتداد القصف في الجنوب.
ليس سهلاً أن تعيش في مستشفى فيصبح مكان عملك هو نفسه محل سكنك، لكن الحرب وأصوات القنابل والاستهدافات المتواصلة دفعت بالزوجين إلى اتخاذ هذا القرار. ولأن خيار الرحيل عن المستشفى مستحيل، والعيش بعيداً عن طفلتيهما مستحيل أيضاً، توجّب على مسؤولة التمريض سارة سلوم أن تواصل دورها كأم وممرضة في زمن الحرب، وأن تعيش كل يوم بيومه، وسط تحديات كبيرة ومشاهد لا تُنسى.
مسؤولية الممرضة أمام الاختبار الأصعب
ما يختبره الطاقم الطبي والتمريضي في "مستشفى النجدة" يزداد صعوبة وقساوة يوماً بعد يوم. ولا تُخفي سلوم في حديثها لـ"النهار" معاناتها، حين تقول "إننا نشاهد الموت كل يوم بوصول الشهداء إلى المستشفى. إن ما نراه في هذه الحرب يختلف عما حدث في عدوان تموز (يوليو) 2006. إن الشهداء أكثر من الجرحى، وإسرائيل تُبيد الحجر والبشر، والإصابات بأغلبها قاتلة، وقليلون ينجون من الاستهدافات".
وتضيف سلوم، "نحن نعيش في تحدٍ متواصل". لقد أضحت شاهدة على الدمار والعنف والقتل المستمر. وتشير إلى أنها تشاهد الدمار في كل مكان، ويحوط بها جوّ من التخبّط، "مين بدك تواسي لتواسي؟ الكل موجوع وعم بعاني".
مع ذلك، لا يمكنها التخلّي عن رسالتها التمريضية. ووفق ما توضح "أنا في مكان مسؤولية. وأنا مسؤولة عن 30 ممرضاً وممرضة يعانون من تبعات النزوح والحرب والوجع. وهناك المسؤولية الأساسية عن الجرحى، إضافة إلى حياة بناتي. يحب علينا أن نتكاتف ونستمر حتى "تقطع هيدي الإيام"، وسنواصل ما بدأنا به من دون رجعة، أي إنقاذ أكبر عدد ممكن من الناس".
وفقاً لوزارة الصحة العامة اللبنانية، قُتل 166 طفلاً منذ تشرين الأول(أكتوبر) 2023، في حين أُصيب ما لا يقلّ عن 1168 آخرين. هذه الأعداد المأسوية تتزايد يوماً بعد يوم. وقد تجاوز عدد النازحين الأطفال 350 ألف طفل، وفق التقارير الرسمية.
نفسية الطفل في مهب الهلع والخوف
في داخل المستشفى، تعيش سلوم مع ابنتيها وزوجها، وأصوات القنابل تعلو في المنطقة. لا شيء يخفف من الخوف والقلق الذي يختبره الأطفال. ووفق ما تروي سلوم، لقد اضطر كثيرون "إلى النزوح بعيداً إلى مناطق أكثر أماناً بعد حادثة "البيجرز" وما رافقها من حوادث تصاعدية. صحيح أننا نستقبل شهداء أكثر من الجرحى، ولكن لم يكن لدينا إصابات في صفوف الأطفال، واقتصرت بعض الإصابات على جروح طفيفة وحالات هلع وخوف نتيجة القصف".
في سياق متّصل، نبّهت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" إلى أنّ الحرب المستمرة في لبنان قلبت حياة الأطفال رأساً على عقب، مشيرةً إلى أنّ طفلاً على الأقلّ يُقتل كل يوم في لبنان منذ مستهل تشرين الأول (أكتوبر) 2024.
باستمرار، يتعمّق ما يعانيه الأطفال من ضربات تطاول صحتهم النفسية، تشمل الخوف من الأصوات، القلق والبكاء والهلع. لقد نجت ابنة سلوم من إصابة كادت تكون خطيرة لولا العناية الإلهية. وهي تروي لـ"النهار" أن "إسرائيل قصفت بالقرب من المستشفى. جاءت الضربة قوية ما أدّى إلى تضرر كبير في المبنى. كانت ابنتي في مكتبي تتابع تعليمها "أونلاين" حينما سقط سقف الغرفة عليها. لقد نجت لحسن الحظ لأن السقف خفيف مثل "الفلّين"، وتسبّب بجرح صغير برأسها. في المقابل، تكفّلت هذه الحادثة بزعزعة كياننا وأعماقنا. نعيش مع أطفالنا حالة ترقّب وقلق دائمين، وسؤال واحد يرافقنا "ماذا ينتظرنا غداً؟".
على غرار كثيرين، لا تملك سلوم سوى الدعاء بأن تنتهي الحرب قريباً، وأن يتوقَّف كلّ هذا الوجع. يصعب عليها أن تنسى ما تمرّ فيه، فتحكي، "جاء أب يسأل عن ابنه الشهيد. بكى بحرقة. لقد بحث يائساً عن فلذة كبده قبل أن يعرف حقيقة استشهاده. قصص كثيرة لم تُروَ بعد، ولم نعرفها حتى، وما نشاهده ليس إلّا عينة من أوجاع لا تُحصى أو تُعدّ".
وجوهٌ لا يُمكن نسيانها
يستعيد علي عميس مسؤول قسم الطوارئ في مستشفى النبطية أول أيام الحرب. آنذاك، استقبل المستشفى "عدداً كبيراً من إصابات الأطفال، وظهرت صعوبة في تحديد هويّاتهم ومعرفة أسمائهم. انتُشل الأطفال من تحت الركام. لم نعرف حتى الأسماء الأولى لقسم كبير منهم. تعاملنا مع مختلف الحالات من الطفيفة إلى المتوسطة والخطيرة".
ومع مواصلة إسرائيل حربها على الجنوب وسكانه، دفع الأطفال، وهم جزء من هذا المجتمع ثمناً باهظاً أيضاً. يتحدث عميس عن بعض الحالات التي طبعت بقساوتها ذاكرة العاملين الطبيين. ووفق كلماته، "أتذكّر جيداً إصابة طفلة بعمودها الفقري. وُضِعَتْ في العناية الفائقة بسبب إصابتها الخطيرة والصعبة، حيث قاومتْ بصبر قبل أن تُستشهد. وأتذكّر جيداً إصابة طفل لم يتعدَ السنتين من عمره بشظية في قلبه، فعانى من نزيف واستُشهد، لأن جسده الصغير لم يحتمل. وطفلة أخرى عانت من نزيف في الدماغ بسبب إصابة في الرأس، ثم استُشهدت أيضاً بعد وصولها إلى المستشفى".
شهد عميس حالات كثيرة ما زالت محفورة في ذاكرته. يشدّد على أن مجريات الحرب تختلف عن كل شيء رآه قبلها، ويضيف: "كنا في بداية الحرب على موعد مع حالات كثيرة. ولا يمكن أن أنسى إصابة طفلة سورية لم نعرف اسمها ولا اسم عائلتها. أصيبت في بطنها وظهرها ورأسها، وبقيت 10 أيام تكافح من أجل الحياة قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة وتستشهد. تعرفنا إلى عائلتها بعد وفاتها. يصعب علينا أن ننسى كل هذا الوجع والوجوه البريئة".
وفق قوله، "إن ما تراه العين يبقى مخزناً فيها، بل يتراكم مع توالي المشاهد، وأحياناً من دون استئذان. بكيتُ كثيراً. مثلاً، حينما وصل ولد يبلغ من العمر 12 عاماً يبكي ويصرخ لأخيه الذي يُدعى زين. رفض أن نداويه قبل أن يُشاهده. وحينما أحضروا أخاه مصاباً، غمره وبكى لدقائق، ولم يتركه. وبعد ذلك قال لنا يمكنكم الآن أن تعالجوني".
لا نجاة للطفل من الإصابة
في بداية الحرب، بدت إصابات الأطفال مختلفة عن اليوم. ومع اشتداد الحرب نزحت العائلات ولم يُصب الأطفال بأيّ أذى. مع ذلك، يُشير عميس إلى أنه "في الأسبوعين الماضيين، بدا لافتاً إصابة أولاد تتراوح أعمارهم ما بين العاشرة والثانية عشرة من العمر، بعدما تعذّر على بعض الأهالي النزوح، ما أدّى إلى تسجيل إصابات طفيفة. لكن ما يستدعي التنبه، والذي لمسناه كان القلق والخوف، وهاجس الطفل بأن يكون هناك أحد ما إلى جانبه. كانت الإصابات طفيفة إلّا أن أوضاعهم النفسية بالغة السوء".
ومن نجا من الإصابة الجسدية لاحقته الصدمة النفسية. وقد أشارت منظمة الـ "يونيسيف" العالمية إلى أنّ "آلاف الأطفال ممن نجوا جسدياً من أشهر من القصف المستمر باتوا يعانون الآن من ضيق نفس حادّ بسبب تصاعد العنف والفوضى من حولهم". ما الذي ينتظر هذه الأجساد الصغيرة في أيام صعبة مقبلة؟