تحمل اللجهة المصممة لكلمات "إعلان جدة" على التفاؤل بقرب تجفيف مد ظاهرة "مقاومة مضادات الحيوية" AntiMicrobial Resistance واختصاراً "إيه أم آر" AMR . ويشار إلى تلك الظاهرة أيضاً عبر الإشارة إلى العناصر المسببة لها التي توصف بـ"الجراثيم الخارقة"، في إشارة إلى الميكروبات التي تطورت لديها القدرة على مقاومة الـ"أنتي بيوتيك"، وتصير أمراضها مستعصية على العلاج. وتهدد الـ"إيه أم آر" بخسارة ملايين الأرواح البشرية وتدهو صحة أضعاف ذلك الرقم، وفقدان تريليونات الدولارت من الناتج الخام للبشرية وانخفاض انتاجية القوى العاملة عالمياً؛ بالإضافة إلى تأثيرات كارثية على النباتات والمواشي والدواجن.
سلاح الطب التاريخ قد يتبدد هباءً منثوراً
الأرجح أنه منذ مستهل القرن 21، لم تكل ألسنة الخبراء في العالم عن تكرار النداءات بضرورة التصدي الجاد والعميق لظاهرة الجراثيم الخارقة. ويشيرون إلى أنه مع حلول العام 2050، تصل الوفيات السنوية بالميكروبات المستعصية على مضادات الحيوية، إلى عشرة ملايين وفاة، ما تتصدر قائمة أسباب موت البشر على الأرض، متفوقة على ما تحصده السرطانات من الأرواح عالمياً.
ويترافق ذلك مع إلقاء أعباء إضافية على أنظمة الرعاية الصحية العامة تريليون دولار عالمياً، مع حلول العام 2050. ومثلاً، تتكبد الولايات المتحدة حاضراً قرابة 4.6 مليارات دولارات سنوياً في علاج أمراض تتسبب بها الميكروبات المقاومة للأدوية.
قبل المضي في سرد لمحة صغيرة عن القائمة الطويلة للمخاطر التي تحملها الجراثيم المستعصية على مضادات الحيوية؛ يجدر إعطاء فكرة عن تلك الظاهرة بحد ذاتها.
ويشير مصطلح "الجراثيم الخارقة" إلى مقاومة تلك الكائنات المجهريّة الدقيقة، لمضادات الحيويّة بمعظم أنواعها.
وتاريخياً، شكَّل البنسلين أول المضادات الحيويّة التي اكتشفها الطب الحديث في العام 1928، على يد الطبيب البريطاني آلكسندر فلمينغ. وعندها، بدا فاعلاً ضد معظم أنواع البكتيريا. وسرعان ما اتّضح وجود الجراثيم تقاوم البنسلين. وتكرر الأمر مع مضادات أخرى.
الأطباء سبب غير وحيد للجراثيم المستعصية
تنشأ مقاومة مضادات الحيوية بأثر من عوامل تشمل:
1- تأقلُم جينات الجراثيم مع تأثير الأدوية المضادة لها. وتتوارث الجراثيم تلك التراكيب التي قد تضاف إلى مكونات مشابهة كلما تكرر توارثها ومواجهاتها مع مضادات الحيوية.
2- سوء استعمال مضادات الحيوية. يتحمل الجسم الصحي والطبي مسؤولية كبرى عن ذلك المنحى. ويسهم الجمهور في ذلك عبر تجاوز التوصيات عن الطريقة الصحيحة لاستعمال الـ"أنتي بيوتيك"، إضافة إلى شراء تلك الأدوية من دون استشارة طبية.
3- الإفراط في استعمال مضادات الحيوية في مزارع التدجين المكثف للمواشي والدواجن. ويؤدي السعي إلى تضخيم الأرباح دوره. ومثلاً، في العام 2016، تعهدت شركة "ماكدونالدز" أمام اجتماع لرؤساء العالم في الأمم المتحدة بسحب المضادات الحيوية تدريجياً من اللحوم التي تبيعها. وقبل أيام، حدث انتشار لجراثيم عبر لحوم تلك الشركة في أميركا، ما ذكّر بعلاقة التدجين المكثف مع انتشار الجراثيم المقاومة للأدوية.
4- هنالك إفراط أيضاً في استخدام الـ"أنتي بيوتيك" في مكافحة الآفات الزراعية. وتبدو المشكلة معقدة، لأن استمرار الدائرة المغلقة بين استعمال مضادات الحيوية وتكاثر الجراثيم المقاومة لها، يهدد بإفناء أنواع زراعية مهمة يعتبر بعضها أساسياً لغذاء البشر. ثمة جهود لتطوير أنواع نباتية معدلة وراثياً تقاوم الآفات، لكن هذا الأمر له جوانب متشابكة ومعقدة، بما في ذلك تأثيراتها على البشر.
وتعطي المعطيات السابقة فكرة عن سبب تشديد "إعلان جدّة" على ضرورة بذل جهود متكاملة وجماعية، تشمل كل المؤسسات والقطاعات المعنية بمكافحة ظاهرة "الجراثيم الخارقة". وعبر الإعلان عن ذلك بشعار "لا أحد يتخلف عن الركب".
وتذكيراً، شكل المؤتمر الوزاري الرفيع المستوى الذي استضافته المملكة العربية السعودية بين 14 و16 نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، بمشاركة عربية واسعة شملت "المركز الخليجي للوقاية من الأمراض"، الحلقة الرابعة من سلسلة ابتدأت في هولندا عام 2014. وتلى ذلك اجتماع استثنائي على مستوى رئاسي استضافته الأمم المتحدة في 2016. وعقد المؤتمر الوزاري الرفيع المستوى الثاني في هولندا أيضاً عام 2019، وحل الثالث ضيفاً على مسقط في العام 2022.