وقف المخترع الأميركي توماس ميدغلي جونيور أمام حشد من الصحفيين، ليختبر ما اكتشفه أمام مرأى الجميع. ببساطة، سكب مادة مضافة تحتوي على الرصاص على يديه، ليستنشق من بعدها أبخرتها لمدة دقيقة تقريباً. ومن دون تردّد، قال: "يمكنني فعل ذلك كل يوم من دون أن أُصاب بأي مشاكل صحية على الإطلاق".
ولم تحمه تلك الكلمات من المرض والخضوع لعلاج طبي، بعد وقت قصير من تلك التجربة التي سيترتب عليها عواقب وخيمة تجاوزت شخصه.
بنزين ورصاص وشهوة الأرباح
حدث ذلك في عام 1924. آنذاك، لم يكن ميدغلي سوى مهندس كيميائي في شركة "جنرال موتورز". وتمثَّل الهدف من تلك الحيلة بدعم اكتشافه المربح، أي مركّب الرصاص المعروف باسم "رباعي إيثيل الرصاص".
حينها، افتُرِض أن هذا المركّب يجسّد الحل السحري لإحدى أكبر المشكلات التي واجهتها صناعة السيارات المتمثلة في "تخبّط المحرك"، أي الفرقعات الصغيرة التي تحدث داخلها نتيجة انخفاض جودة البنزين، ما يؤدي إلى صوت مزعج وأضرار محتملة.
وعلى الرغم من أن الرصاص شكّل حلاً لتلك المشكلة، إلّا أن ثمناً باهظاً ترتّب على ذلك، ودفعته صحة البشر عالمياً، لأنه مادة شديدة السمّية للناس، خصوصاً الأطفال.
ووفق ما نشره موقع "سي أن أن" أخيراً، لم يتوقف طموح ميدغلي عند هذا الإكتشاف. وبعد 4 سنوات، طبع بصمة أخرى في تاريخ الابتكارات، من خلال اختراع مدمّر آخر ، أشدّ فتكاً من الأول، وقد جاء كحاجة ملحّة لاستبدال الغازات السامّة والقابلة للاشتعال المستخدمة في التبريد وتكييف الهواء.
العالم يستغيث
على يد ميدغلي، وُجِدت مركّبات الكلوروفلوروكربون (CFCs) الشهيرة. وبعد عقود، تبيّن أنها قاتلة لطبقة الأوزون في الغلاف الجوي التي تحمي الأرض من الإشعاعات فوق البنفسجية الضارّة، التي يمكن أن تسبب سرطانات الجلد ومشكلات صحية أخرى، بالإضافة إلى الإضرار بالنباتات والحيوانات.
بعد مرور مئة عام على تلك الحيلة أمام الصحافة في عام 1924، لا يزال الكوكب يعاني من الآثار السلبية لاختراعي ميدغلي. إذ تحتاج طبقة الأوزون إلى أربعة عقود أخرى كي تتعافى تماماً. وكذلك استمر بيع البنزين المحتوي على الرصاص في بعض أنحاء العالم حتى عام 2021. ولا يزال عديد من الناس يعيشون مع الآثار طويلة الأمد للتسمّم بالرصاص.
بقي ميدغلي في صورة المخترع البطل على مدار عقود. لكن، هل يُنظر إلى صورته اليوم كما كان في الماضي؟
تستعد هوليوود لرواية قصته من خلال فيلم Midge مستوحى من حياة توماس ميدغلي جونيور. ووفق مؤلف الفيلم "الشيء الوحيد الأكثر جنوناً من هذه القصة، هو أنها لم تُروَ من قبل".
في المقابل، غاص الكاتب ستيفن جونسون في ثنايا حياة المخترع ميدغلي، عبر مقالة نشرتها مجلة "نيويورك تايمز" أخيراً بعنوان "المخترع العبقري الذي ارتكب اثنين من أكبر الأخطاء في التاريخ [ الرصاص والكلوروفلوروكربونات]" .
ربما يصعب التفكير في شخص آخر أحدث ضرراً أكبر لصحة الإنسان والبيئة. ويجدر تذكّر أن ميدغلي سعى لابتكار منتجات تلبّي احتياجات المستهلكين العاجلة في ذلك الوقت.
عودة إلى البدايات
وُلد ميدغلي في بنسلفانيا عام 1889. وفي سن مبكرة، ظهر لديه ميل لاكتشاف تطبيقات مفيدة باستخدام المواد المعروفة. في المدرسة الثانوية، استخدم لحاء أشجار الليم الخزفي في صنع مادة تمنح كرات البيسبول مساراً أكثر انحناءً، وهي ممارسة سيتبنّاها اللاعبون المحترفون لاحقاً.
عُرِف عنه أنه يحمل معه دائماً نسخة من الجدول الدوري Periodic Table الذي شكّل أداته الرئيسية في البحث عن المادة التي ستشكّل اختراعه الرائد. وتذكيراً، يضمّ الجدول الدوري قوائم منظمة عن التركيبة الأساسية للمواد كلها.
بعد 5 سنوات من تخرّجه، التحق ميدغلي بوظيفة في شركة "جنرال موتورز" في مدينة دايتون. هناك، لفت انتباه تشارلز كيتيرينغ بسرعة، المخترع الأميركي المؤثر ورئيس قسم البحوث في "جنرال موتورز". وطلب كيترينغ من ميدغلي مساعدته في إيجاد حل لمشكلة "تخبّط المحرك" الذي يتأتى من خلل في احتراق البنزين، ويستهلك طاقة السيارات بسرعة، ويهزّ ركابها، ويهدّد بتقليص نمو صناعة السيارات الناشئة.
في سعيه للعثور على الحل المنشود، اشتغل ميدغلي على اختبار عددٍ كبير المواد، شملت الزرنيخ والكبريت والسيليكون. وفي النهاية، توصل إلى التترايثيل رصاص الذي جرى تسويقه ببساطة تحت إسم "إيثيل".
وفي العام 1923، بدأ بيع البنزين المحتوي على الرصاص في بلدة دايتون قبل أن ينتشر في جميع أنحاء العالم.
وفق منظمة "يونيسف" يُعتبر الرصاص "مادة سامّة للغاية. ولا يوجد مستوى آمن للتعرّض لها، ويمكن أن تؤثر على النمو لدى الأطفال، ما يسبب انخفاضاً في الذكاء واضطرابات سلوكية". وتشير تقديرات "منظمة الصحة العالمية"، إلى أن نحو مليون شخص يموتون سنوياً بسبب التسمّم بالرصاص.
تحذيرات وسباق تجاري
وفق رأي أستاذ التاريخ في "جامعة مدينة نيويورك"، جيرالد ماركوفيتش، "لقد ظهرت تحذيرات مبكرة، لأن الرصاص اشتُهِر كمادة سامّة. لكن موقف صناعة السيارات تمثّل في عدم وجود دليل على أن الرصاص الخارج من عوادم السيارات سيؤذي الناس. واستندت السلطات الصحية الرسمية إلى ذلك في تبرير عدم اتخاذها أي إجراء" ضدّ البنزين المزوّد بالرصاص.
ومع ذلك، سرعان ما عانى العمال في مصنع إيثيل من تأثيرات سلبية. وظهر أن الأشخاص الذين يعملون في المختبرات التي تنتج تيترا إيثيل الرصاص يصابون بأمراض، مما خلق أزمة.
في سياق آخر، ابتكر ميدغلي مركّباً سمّاه فريون Freon المشتق من الميثان. ويتكوّن من ذرات الكربون والكلور والفلور . وشكّل أول مادة من مركبات الكربون والفلور ) CFC).
وفي عرض علني آخر، في عام 1930، استنشق ميدغلي ذلك الغاز وأطفأ شمعة به، في خطوة تهدف إلى إظهار سلامته.
أصبح فريون، بالإضافة إلى مركبات الكلور فلور كربون الأخرى التي تلتها، من النجاحات التجارية، ما أدى إلى زيادة كبيرة في تبني تكييف الهواء في الولايات المتحدة.
لكن، لم تظهر آثار تلك المركّبات إلّا في منتصف السبعينيات من القرن العشرين، بعد ثلاثة عقود من وفاة ميدغلي. وتبيّن أن مركّبات (CFC) قد أحدثت ثقباً في طبقة الأوزون فوق القارة القطبية الجنوبية. ولو تُرك ذلك الثقب من دون ضوابط، لتوسع إلى حدّ يهدّد جميع أشكال الحياة على كوكب الأرض.
في موازاة ذلك، أفادت دراسة في عام 2022 أن نصف سكان الولايات المتحدة الحاليين قد تعرّضوا لمستويات خطيرة من الرصاص في مرحلة الطفولة المبكرة. وفي المقابل، يصعب تحديد حجم الضرر الذي لحق بصحة العالم الجماعية.
ويشير أحد كتّاب سيرة ميدغلي، إلى أن "الحقيقة المحزنة تتمثل بأننا نجهل عدد الأطفال الذين تأثروا بشكل سلبي. لا يوجد مستوى آمن للرصاص في جسم الطفل. نحن نتحدث عن عشرات الملايين من الأطفال، مئات الملايين من الأطفال على مدى نصف قرن أو أكثر، الذين تأثروا بشكل سلبي، وتقلَّصت فرص حياتهم بسبب غبار الرصاص الناتج من أدخنة عوادم السيارات التي تسللت إلى الأرض أو الشوارع".
اختراعات أصبحت كارثية مع الوقت
في نظرة إلى التاريخ، يبدو أن هناك أمثلة أخرى على اختراعات تبين لاحقاً أنها مميتة، من دون أن يقصد مبتكروها ذلك. من الأمثلة الشهيرة على ذلك مادة "تي أن تي" TNT، التي جرى تطويرها في البداية لاستخدامها كصبغة صفراء، ولم تُستخدم كمتفجر إلّا بعد عقود من الزمن.
في المقابل، يُعتبر ميدغلي فريداً في تطويره اختراعين من هذا النوع. وقد لا ننجذب إلى عدم النظر إليه كشرير بيئي. وثمة خبراء يرون أنه كان جزءاً من آلة كبيرة. ولم يكن ميدغلي سوى موظف في شركة، وربما علينا ألّا ننسى ذلك.
وقبل ستينيات القرن العشرين، لم يُفكر أحد في العواقب المحتملة لذلك الابتكار التكنولوجي. انتهت حياة ميدغلي في ظروف مأساوية. وقد أصيب بشلل الأطفال في عام 1940، وأصبح معاقًا بشدّة. وحينها، ابتكر شيئاً آخر: جهاز لرفع جسمه من السرير إلى الكرسي المتحرك بشكل أوتوماتيكي، باستخدام الخيوط والبكرات. لكن في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1944، وقع جسده داخل ذلك الجهاز، وتسبب ذلك في اختناقه ووفاته.
قد يكون الواقع أكثر قتامة من الكلمات السابقة. وفي العلن قيل إن سبب الوفاة هو الاختناق العرضي، ولكن بشكل خاص، حكم الطبيب الشرعي بأنها انتحار.
اليوم ينتظر العالم ظهور قصة حياته في فيلم سينمائي. كيف سيتفاعل الجمهور مع قصة رجل من وسط أوهايو يُلام على قتل أو إيذاء مئات الملايين من الأشخاص حول العالم؟ علينا الإنتظار !